أشواك الذاكرة توخز الأقدام على خط الجزائر باريس

العلاقات بين الدول لا تبنى فقط على المصالح أو التبادل أو الجوار، بل تنهض أيضا على التاريخ والذاكرة. العلاقات الجزائرية الفرنسية مازالت محكومة بماضي الحقبة الاستعمارية، ففضلا عن المطالبة الجزائرية باعتذار رسمي فرنسي عما حصل طوال 130 عاما من الاحتلال، فإن العلاقة تأثرت كذلك باحتفاظ المتاحف الفرنسية بالآلاف من الجماجم للمقاومين الجزائريين، وبأرشيف الفترة الاستعمارية بكل ما يضمه من وثائق.
الاثنين 2017/01/23
ذاكرة الحقبة الاستعمارية حبيسة رفوف المتاحف

الجزائر - تستمر الذاكرة التاريخية في الإلقاء بثقلها على محور الجزائر باريس، رغم مساعي التقارب بين البلدين منذ مطلع الألفية، حيث يهيمن عامل التذبذب وعدم الثقة حتى على أزهى مراحل الانسجام بين القيادتين في الجزائر وفرنسا، الأمر الذي رهن محاولات فتح صفحات جديدة تقوم على الندية والمصالح المشتركة، فمع كل خطوة لجسر الهوة بين الطرفين، تظهر الملفات التاريخية العالقة لتعيد المسألة إلى مربع الصفر.

أكد الإعلامي والباحث التاريخي محمد عباس، لـ”العرب”، أن العلاقات الجزائرية الفرنسية لا يمكن الاطمئنان لها في أي مرحلة من المراحل رغم الروابط المشتركة، وأن الماضي لا يزال يرهن الحاضر وحتى المستقبل، فعدم تسوية ملف الذاكرة وغياب الشجاعة سيؤجلان أي تقارب أو ثقة بين الطرفين.

وقال “لا يمكن الحديث عن أي تكامل أو مصالح مشتركة محترمة، في ظل تغلغل الأفكار الاستعمارية في بعض الدوائر الفرنسية النافذة، وغياب الجرأة لدى دوائر القرار في باريس، للاعتراف بماضي بلدهم في الجزائر، كما اعترفوا به في عدد من المستعمرات القديمة، وعليه ستبقى الذاكرة تلقي بمفعولها حتى لدى الأجيال الجديدة من أبناء المهاجرين، وليس لدى عموم الجزائريين في الجزائر فقط”.

ورغم أن البعض أدرج التصريحات الجريئة لبعض الجهات المحسوبة على التيار المهادن في هرم السلطة الجزائرية، في سياق الاستهلاك الإعلامي وامتصاص غضب الشارع، إلا أن ما جاء لمرات متكررة على لسان وزير المجاهدين (قدماء المحاربين) طيب زيتوني، والأمين العام الجديد لحزب جبهة التحرير الوطني الحاكم جمال ولد عباس، حول الماضي التاريخي بين البلدين، ينطوي على نية لدى السلطة بعدم طي صفحة التاريخ.

وكان وزير المجاهدين طيب زيتوني، وأمين عام جبهة التحرير الوطني جمال ولد عباس، قد صرحا مرارا، بعدم التنازل عن مطالبة السلطات الفرنسية بالاعتراف والاعتذار عن الماضي الاستعماري لبلدهما في الجزائر، والتمسك باسترجاع الأرشيف المحجوز في فرنسا، بما فيه جماجم الجزائريين المحتفظ بها لحد الآن في متحف الإنسان بباريس.

ويرى مراقبون في الجزائر، أن مسألة الأرشيف تشكل قنبلة سياسية تحاول السلطات الفرنسية واللوبي الموالي لها في الجزائر، تلافي الخوض فيها، لأنها ستكشف عن أسرار كبيرة تهدد بالدرجة الأولى مصالح ومواقع اللوبي المذكور، خاصة وأن البعض من رموزه يتواجد في مواقع متقدمة داخل السلطة، وانكشاف الحقيقة يدمر مصالحه ويحرج رموزه أمام عموم الشعب، ويفقد فرنسا عيونها داخل الجزائر.

وحسب الباحث التاريخي محمد بلغيث، فإن مسألة الذاكرة ستبقى حية ومعيقة لأي مصالحة حقيقية بين الطرفين، فمن جهة هناك تغلغل الفكر الاستعماري لدى قطاع عريض من الدوائر الفرنسية النافذة، ومن جهة أخرى هناك جيل في الجزائر صنع ذلك التاريخ، ولا يريد كشف كل الحقيقة للرأي العام المحلي، لا سيما من يحسب منه على جيل الثورة التحريرية، بينما الأصل هو العمالة المحبوكة لأجل اختراق الثورة في بداية الأمر، ثم حماية مصالح ونفوذ فرنسا بعد الاستقلال.

ويرى مختصون أن اللوبي الموالي لفرنسا في الجزائر، أجهض على مدار العقود الماضية، كل محاولات التخلص من التبعية السياسية والاقتصادية والثقافية لفرنسا، ووقف سدا في وجه مساعي إصدار البرلمان الجزائري لقانون يجرم الاستعمار، كرد منه على القانون الصادر عن الجمعية الفرنسية في فبراير 2005، الذي “مجد عمل الجيش الفرنسي خارج حدود المستعمرات، واعتبر ذلك من قبيل نشر الحضارة وتمدين الشعوب المتخلفة”.

إثارة متحف الإنسان بباريس لقضية الجماجم البشرية المحفوظة لديه، أحيت جراح الذاكرة الجزائرية

وقالت مصادر متابعة للملف لـ”العرب”، إن “جهات نافذة في السلطة تدخلت لدى قيادات أحزاب السلطة، من أجل إجهاض أغلبيتهم النيابية لمشروع تجريم الاستعمار في البرلمان”، وعبر حينها رئيس حزب التجمع الوطني الديمقراطي أحمد أويحيى، عما أسماه بـ”مزاجية وانفعالية المشروع، وأن حزبه يراعي مصالح البلاد”.

وجاءت إثارة إدارة متحف الإنسان بباريس لقضية الجماجم البشرية المحفوظة لديه، لتحيي جراح الذاكرة الجزائرية خلال الأسابيع الأخيرة، لا سيما وأن الأمر يتعلق بجماجم أكثر من ثلاثين قياديا من قادة المقاومة الشعبية التي خاضها الشعب الجزائري ضد الفرنسيين على مدار قرن وثلث ( 1830 – 1890)، الذين فصلت رؤوسهم عن أجسادهم من طرف الجيش الفرنسي، وحملت إلى باريس ثم إلى متحف الإنسان، كما هو الشأن بالنسبة إلى القائدين الشريف بوبغلة (منطقة القبائل) والشيخ بوزيان (الجنوب الغربي).

وأثارت المسألة التي طرحها باحثون في التاريخ كالأستاذ علي فريد بلقاضي، استفهامات عديدة عن المبررات الأنثروبولوجية التي يتحجج بها المتحف، في ظل الإخفاء العمدي لـ36 جمجمة لقادة تاريخيين جزائريين عن متناول الباحثين، حيث لم يتم الكشف عن حقيقتهم إلا في العام 2011، بعد إلحاح من باحثين مستقلين.

ويضم متحف الإنسان بباريس حوالي 18 ألف جمجمة، لأغراض علمية وبحثية، ولم يتم التعرف لحد الآن إلا على هوية 500 جمجمة، منها 36 جمجمة تعود لقادة ثوريين جزائريين، تم فصل رؤوسهم عن أجسادهم في معارك حربية خلال القرن التاسع عشر، وحملت بعدها إلى باريس ثم متحف الإنسان بدعوى البحث العلمي والأنتروبولوجي.

وتساءل الباحث التاريخي علي فريد بلقاضي “لماذا يتم إخفاء هوية الجماجم الجزائرية عن الباحثين والزوار في جناح بعيد عن الأضواء في خزائن كرتونية حملت أرقام أصحابها فقط؟، هم ليسوا لصوصا أو قطاع طرق، بل جماجم ذات بعد تاريخي وأخلاقي، يبدو أنها تزعج الفرنسيين حتى وهي عظام”.

وجاءت دعوة رئيس مجلس إقليم سانت دوني بشمال باريس ستيفان تروسيل، الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند، إلى التحقيق في المجازر التي وقعت في الجزائر خلال الحقبة الاستعمارية (1830 – 1962)، لتؤكد حجم تغلغل الملفات التاريخية في مسار علاقات البلدين، وتأثيرها في الضمير الفرنسي.

وطالب ستيفان روسيل، الرئيس هولاند بـ”الاعتراف بمجزرة باريس″ التي وقعت في 17 أكتوبر 1961، وإعلانها “يوما وطنيا”، وذكر “إن هولاند قلب وعده الانتخابي الذي قطعه بخصوص حق تصويت الأجانب، إلى العكس تماما عبر تبني قانون إسقاط الجنسية”.

وأكد المتحدث على ضرورة “إجراء بحث وتحقيق في المجازر التي ارتكبتها فرنسا إبان حرب الجزائر (1954 – 1962)، وضرورة إدراج ممارسات فرنسا الإستعمارية، والأحداث التي أعقبتها، في المناهج الدراسية، وإذا كنا نريد أن يشعر الشباب من أبناء المهاجرين الذين يعيشون في فرنسا، بالمواطنة بشكل كامل، فإنه يتعين على الجمهورية الفرنسية الاعتراف بتاريخ آبائهم وأجدادهم”.

وكان حزب جبهة التحرير الوطني الحاكم وقائد ثورة التحرير (1954 - 1962)، قد عبر في بيان بمناسبة الذكرى الثانية والستين لاندلاع ثورة التحرير، المحتفل بها في كل فاتح من شهر نوفمبر، عن تمسكه بما وصفه بـ”المطلب الشرعي” بضرورة اعتراف فرنسا للشعب الجزائري بما ارتكبه الاستعمار من جرائم".

وهاجم الحزب في تحول غير مسبوق فرنسا بالقول “إن سجل الاستعمار ملطخ بالدماء والجرائم والممارسات غير الإنسانية ورغم ذلك فإنهم (الفرنسيون) يتحدثون عن محاسن الاستعمار، ويكرمون الحركي (جزائريون عملوا مع الجيش الاستعماري)، ويصفون الثورة والمجاهدين بالإرهاب والإرهابيين”.

لهجة الحزب الحاكم الذي يقوده رئيس البلاد عبدالعزيز بوتفليقة، عكست وجود جمود يطبع العلاقات بين البلدين خلال الأشهر الأخيرة بسبب ملفات تاريخية، ولمح بوتفليقة في رسالة له بالمناسبة إلى “رفض بلاده الإشادة بالفترة الاستعمارية من قبل الساسة في باريس. وقال “ما أكثر المجازر التي كانت من قبيل الإبادة أو كادت، والتي تخللت الليل الاستعماري وحقائق الاستعمار التي لن يقوى، أي خطاب يعلو من وراء البحار (فرنسا)، لا على تزييفها ولا على محوها”.

ظِلّ التاريخ سيبقى مهيمنا على العلاقات بين الدولتين خصوصا مع استمرار استفزاز الفرنسيين للشعب الجزائري، برفض الاعتراف والاعتذار عن جرائم المحتل، بكل ما يترتب عن ذلك من مسؤوليات تاريخية وسياسية.

13