أسواق حلب تكافح لإعادة عجلة التجارة إلى الدوران

غالبية سكان حلب الذين هاجروا من المدينة يواصلون أعمالهم خارجها ما يهدّد استمرار مصالح تجارية ويضاعف صعوبات عودة عجلة الحياة إلى أسواق المدينة.
السبت 2021/09/04
البحث عن بداية جديدة

يقاوم أصحاب المحلات التجارية في أسواق حلب أسباب التشاؤم الكثيرة وهم يحاولون استعادة نشاطهم في المدينة، التي كانت توفر الكثير من حاجات البلاد وتصدر منتجاتها الفاخرة إلى أنحاء العالم في ظل عقبات كبيرة تتصدرها هجرة جيل من الشباب مما يقوض استمرارية مصالح توارثتها أسر المدينة لعقود طويلة.

حلب (سوريا)- تسعى حلب، التي تعتبر العاصمة الاقتصادية والمحرك الصناعي لسوريا، لاستعادة مكانتها التاريخية كأحد أكبر المراكز التجارية في البلاد، حيث يكافح أصحاب المحلات لإعادة عجلة أنشطتهم في أسواق ظلت مغلقة لسنوات بسبب الدمار.

ورغم الانتهاء من ترميم سوق خان الحرير، أحد أبرز أسواق حلب في شمال البلاد، بعدما تضرّر خلال سنوات الحرب، إلا أنّ فرحة التجار لم تكتمل في ظل نشاط اقتصادي خجول ومع هجرة أبنائهم الذين أسسوا أعمالا في دول أخرى.

ويعمل تاجر الأقمشة أحمد الشب على إرسال صور للسوق المرمم حديثا عبر هاتفه المحمول إلى ابنه البكر نبهان، الذي غادر إلى الجزائر قبل نحو ثلاث سنوات، واستثمر هناك مع شقيقيه في تجارة القماش، عله يقنعه بالعودة لمساعدته على النهوض بتجارته.

ويقول الشب (55 عاما) لوكالة الصحافة الفرنسية بينما يجلس أمام محله “انتهينا من عمليات الترميم وهذا أمر جيد، لكن ذلك لا يكفي، ما نريده هو عودة أبنائنا إلى هذه المحلات”.

وسوق خان الحرير واحد من بين 37 سوقا محيطة بقلعة حلب الأثرية، استقطبت قبل اندلاع النزاع العام 2011 الآلاف من التجار والسيّاح، وكانت بمثابة العاصمة الاقتصادية لسوريا.

ورغم مضي أكثر من خمس سنوات على انتهاء المعارك بين فصائل المعارضة التي تمركزت في أحياء المدينة الشرقية منذ صيف 2012 وقوات نظام بشار الأسد في الأحياء الغربية، لا يزال دمار هائل يلف المدينة القديمة وأسواقها.

جان مغامز: لا نستطيع العمل وحدنا، ونحن بحاجة لتعاون الجميع

وانتهت المعارك، التي ترافقت مع حصار محكم فرضته القوات الحكومية، في العام 2016 باتفاق تسوية رعته روسيا وتضمن إجلاء عشرات الآلاف من المدنيين والمقاتلين الرافضين له، بعد هجوم عسكري واسع.

وبحسب دراسة أعدها البنك الدولي، فإن الخسائر التي منيت بها عاصمة الشمال التي تبلغ مساحتها 10 في المئة من مساحة سوريا، بلغت نحو 40 في المئة من إجمالي الخسائر التي تكبدها البلد والمقدرة بأكثر من 400 مليار دولار.

وأعيد مساء الأحد الماضي افتتاح سوق خان الحرير والمحلات التي يضمها بعد إغلاقه لسنوات إثر ترميمه من الأمانة السورية للتنمية المدعومة من السلطات، بالتعاون مع مؤسسة آغا خان الثقافية ومحافظة حلب.

ورغم فرحة الشب بـ”عودة الحياة إلى السوق” جزئيا، إلا أنه في الوقت ذاته لا يخفي شعوره بالمرارة والوحدة. ويقول بحرقة، بينما تتصدر صورة والده الذي ورث المصلحة عنه أحد جدران متجره، “أولادي في الجزائر، وأولاد غيري في مصر وأربيل. هناك مهن كثيرة مهددة بعدم الاستمرار إذا واصل الأبناء الهجرة والسفر”.

ودفع القتال خلال المعارك في حلب، والظروف الاقتصادية والأمنية في السنوات اللاحقة، المئات من التجار المتمولين ورجال الأعمال للهجرة وتأسيس أعمال ومصانع خصوصا في مصر والعراق وتركيا.

وعلى الرغم من عودة البعض مع تراجع المعارك، فإن غالبيتهم يواصلون أعمالهم في البلدان التي هاجروا إليها، ما يهدّد استمرار مصالح تجارية وحرف، ويضاعف صعوبات عودة عجلة الحياة إلى الأسواق.

وفي حلب القديمة وفي محيط القلعة الأثرية، أعادت العشرات من المحلات والمقاهي فتح أبوابها، وعاد الناس لارتيادها والتقاط الصور التذكارية. ورغم إزالة كميات ضخمة من الأنقاض، لا تزال الأبنية المدمرة التي تتكدس طبقاتها المنهارة فوق بعضها البعض، تُشكل العلامة الفارقة في حلب القديمة المدرجة على قائمة منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم (يونيسكو) للتراث المهدد بالخطر، جراء الأضرار والدمار والنيران التي لحقت بها خلال الحرب.

لكن المشهد بدا مختلفا في سوق خان الحرير الذي رمّمت قناطره وفتحت خاناته وجلس أمام أبواب محلاته باعة يعرضون كميات محدودة من البضاعة. وتحت قنطرة رصّعت بأحجار بيضاء وسوداء وسط السوق، يُلقي أحمد الدملخي (65 سنة) السلام على جيرانه الذين لم يلتق بعضهم منذ سنوات، فيما انهمك عمّاله في نقل كمية إضافية من القماش الملون إلى المحل.

ويدير الدملخي المحل نيابة عن شقيقه الذي هاجر مع أبنائه قبل سنوات إلى تركيا. ويقول لوكالة الصحافة الفرنسية “متفائل بعودة افتتاح السوق لكننا نفتقد للتجار من أصحاب رؤوس المال الذين توزّعوا في بلدان عربية وأسسوا أعمالهم هناك”.

ويحاول الدملخي أن ينقل أجواء الافتتاح إلى شقيقه عبر مكالمة فيديو أجراها من داخل المحل وفي الباحة المجاورة، لكنه يسهب في تعداد أسباب تحول دون عودة التجار. ويقول “كنا نعتمد على السياح وعلى القادمين من الأرياف والمحافظات الأخرى والآن الوضع الاقتصادي صعب للغاية”.

ويُضيف “العقوبات من ناحية ثانية تفرض عراقيل تتعلق بالاستيراد والتصدير وحركة التجارة وطالما أن هذه الظروف لم تتغير، فمن الصعب أن يعود أخي وأبناؤه”.

ودفعت الحرب التي أودت بحياة نحو نصف مليون شخص، أكثر من نصف سكان سوريا إلى النزوح داخل سوريا أو التشرد خارجها. واستنزفت الاقتصاد ومقدراته ودمرت البنى التحتية والمرافق الخدمية. وتشهد البلاد راهنا أزمة اقتصادية خانقة تفاقمها العقوبات الغربية. ويعيش أكثر من ثمانين في المئة من السكان تحت خط الفقر، وفق الأمم المتحدة.

ولطالما اشتهرت حلب بأسواقها التجارية القديمة التي تعد من أقدم الأسواق في العالم، وتمتد على مساحة تفوق 160 ألف متر مربع تقريبا، وقد استقطبت على مدار قرون حرفيين وتجارا من أنحاء العالم.

40 في المئة نسبة الخسائر التي لحقت بمدينة حلب من إجمالي خسائر سوريا وفق البنك الدولي

وتقدر منظمة يونيسكو أن نحو ستين في المئة من المدينة القديمة تضرر بشدة، بينما تدمر ثلاثون في المئة منها يشكل كامل. وتشهد حلب القديمة مشاريع إعادة تأهيل الأسواق منذ نحو عامين. وتعمل السلطات مع منظمات غير حكومية على تأهيل البنى التحتية وإعادة الخدمات تدريجيا.

واستغرقت عملية ترميم سوق خان الحرير الذي يضمّ ستين محلا قرابة عام، وتجري الاستعدادات حاليا لبدء ترميم سوقين آخرين. ويقول مدير فرع حلب في الأمانة السورية للتنمية جان مغامز “كانت المنطقة كومة من الدمار، واليوم نستطيع القول إن البنية التحتية للسوق أعيد تأهيلها بشكل كامل”.

لكن ذلك لم يمر دون تحديات. ويؤكد مغامز أنهم واجهوا صعوبات في التواصل مع أصحاب المحلات خارج سوريا خصوصا أنه ليس لدى بعضهم وكيل يهتم بشؤون محلاتهم. وأضاف “لا نستطيع العمل وحدنا، ونحن بحاجة لتعاون الجميع”.

10