أسماء أدبية وفنية جديدة انتقلت من الهامش إلى المتن

الجمعة 2014/12/19
عبدالله مكسور: فكرة الوعي بحد ذاتها بحاجة إلى إعادة تقييم شاملة

بروكسل - الكاتب والروائي السوري عبدالله مكسور المقيم حاليا في بلجيكا وصلها بعد رحلة ماراتونية حملته من سوريا إلى مصر وتركيا والإمارات ثم بعض بلدان أوروبا إلى بروكسل حيث هو اليوم، وفي هذا الحديث يعبر عن وجهة نظره حول الحصاد الثقافي لعام 2014.

وبسؤاله عن مدى تأثر الأدب العربي بثورات الربيع العربي وتعبيره عنها قال: “لا بد من القول إن الأحداث الكبرى لا بد أن تترك أثرها في مكان وقوعها، فالثورات تقسّم التاريخ إلى شطرين؛ أحدهما يبقى متشبّثا بالعهد البائد المنتهي، والآخر يمدّ يديه إلى المستقبل والنور الذي تخلقه الثورة، نعم هناك إصدارات متنوعة ربما ليست من أصناف الأدب ولكنها تعبّر بشكل أو بآخر عن روح خلّاقة إبداعية تنتظر القادم والأجمل، مجلات، مواقع إلكترونية، منشورات منوعة تعمل جاهدة وبكل صدق لتنشر ثقافة الثورة على الاستبداد والظلم”.

واستطرد: “بالطبع لا بد من الاعتراف بقوة رجالات الحرس القديم ووجودهم، الذين يعملون على إطفاء الفتيل المشتعل، وهذا متروك للقدر في قراره، هناك أدب حقيقي، على الأقل برأيي، لمسته سواء تمّ إنتاجه في غياهب السجون أو أصقاع لا منافي، كلها تحمل ذلك الوجع الذي سكن بالشارع العربي”.


الكتابة والدم


وعن أبرز إنجازات الثقافة العربية خلال العام المنصرم، أكد مكسور أن فكرة الوعي بحد ذاتها بحاجة إلى إعادة تقييم شاملة استنادا إلى ما يحدث حولنا، فالأدب الذي لا يعبّر عن وجع الجمهور ويلامسه بشكل مباشر لا قيمة له، وهذا ما يبرر ربّما انشغال عدد كبير من المبدعين بالعمل على مواكبة المنطقة القابلة للانفجار بأي لحظة، هناك من يقول لا يمكن الكتابة والدم في الشوارع؛ إذن كيف تكون الحياة بكل تجلّياتها وطعامنا مغموسٌ بالدم، نحن الذين احترفنا كلّ أنواع الموت، لم يعد يُرضينا موتٌ باهتٌ عاديٌّ صرنا نبحث عن موتٍ شهيّ الطعم، مختلف الحضور بكل الطرق التي لا يمكن أن نتخيّلها، فكيف لنا أن نرضى بتلك الثقافة الكلاسيكية التي أنتجتها أرواحٌ مؤدلجة مؤطّرة بمنطلقات نظرية وقومية فارغة لم تغنِ ولم تسمِن من جوع.

وأضاف: “لا بدّ من إعادة رسم ملامح الثقافة العربية بأوجاعها وليس بتلك اللحظات الهاربة من التاريخ التي نتغنّى بها دوماً، نحن أمّة فقدت أعزّ ما تملك، فقدت كرامتها وحريّتها فكيف لا نغضب لوجودنا وهويّتنا التي يحاولون صبغها بكل أنواع التطرف والطائفية”.

راتب شعبو: سقطت فكرة "الجمهورية الوراثية"

وعن أوجه قصور الثقافة العربية أكّد مكسور أنها وقعت فريسة الأحزاب العربية التي أفرغتها من محتواها الإنساني العام، فأدخلتها في زواريب خاصة معتمة مظلمة تفوح منها رائحة العنصرية، وهي الثقافة التي رُوِّجَ لها طيلة عقود منذ ستينات القرن الماضي وحتى الآن، مضيفًا: “نحن أمام حالة من نكران الذات في الثقافة العربية عموماً وتلك التي تحدّثت عن الوجع الخاص لكل قطر عربي، تلك الرموز التي رفعها الناس عالياً سقطت عند أول امتحان إنساني، بمعنى حقيقة صرت أفرح لموت نزار قباني ومحمود درويش قبل انطلاق الثورات العربية حتى لا نُصدَم بهما”.

وأوضح مكسور أن أبرز الظواهر الثقافية التي رآها خلال السنوات الأربع الماضية تتمحور حول الصدمة في رموز كبيرة اعتقدنا لفترة طويلة من الزمن أنها ركيزة أساسية لهويتنا وثقافتنا العربية، ذلك الشرخ الكبير بين الإنتاج الأدبي وشخص المبدع، تلك الإشكالية اللامنتهية بين نكران المبدع لحق شعبه الذي انتفض.


ثقافة بالية


أما عن الجديد الذي حملته ثقافة الشارع إلى الثقافة العربية قال مكسور: “تلك الظواهر الفردية التي ظهرت تعبيرًا عن الواقع العربي المتردي خلال السنوات الماضية اختلف المتلقي باستقبالها، فالنخبة الصامتة اعترضت على وجود إنتاجات مواكبة لما يحدث، فبرأيهم علينا أن نتحدث عن ساقيها أو نهديها أو شفتيها بينما هناك على مقربة منّا صاروخ يفتت طفلاً إلى مئات القطع، هناك على مقربة منّا امرأة أسقطت جنينها من البرد، فكيف لا نغضب لثقافة بالية قامت على تمجيد السلطان وفلسفة كأس الماء وحبّة الفستق تحت شفتيها، نحن أمام حالة ثقافية متردّية وكل ما يحدث من معارض كتب في العالم العربي وتلك الاحتفالات الكبيرة ما هي إلا رسالة للآخر الذي يشك بنا نحن العرب ( الإرهابيون ) رسالة مفادها نحن مثقفون ولسنا داعش، هذه الازدواجية بين الإصدارات التي لا تُقرأ وبين جمهور تهمّه لقمة العيش أكثر من الحرف لا بدّ من حـــلّها بتقديم منتج ثقافي حقيقي يشبه الشـــارع المنتفض”.

**حين نتحدث عن حصاد ثقافي سوري وسط خرائب المدن والضيع وحرائق البساتين وحطام الأبنية والآثار والصور الجوية لآلاف الخيام في مدن اللجوء الجديدة التي أوى إليها الفتية السوريون، فلن نصاب بعدوى الندب والعويل كما يطيب لكثيرين استطابوا رثاء الشعب، بقدر ما سيعني هذا البحث عن الثقافة هنا، البحث عن الإنسان، والإنسان وحده، صانع الحضارة، ومهندس المعمار والبيئة.

ولعلّ المنجز الذي يمكن تسميته بالثقافي، والذي تمثلّه بصورة آلية، الفنون والآداب، لم يعد هو وحده التمثيل الوحيد لإنتاج الثقافة الإنسانية، حين يمكن لتلك الثقافة أن تكون مجرّد شكل حياة، وتتوقف عن كونها انتظاراً طويلاً، وصبراً بلا حدود، كما عاش السوريون خلال العقود الخمسة الماضية، فكان إنتاجهم الثقافي على أهميته ووفرته، تراكماً بلا نوعية، وفعلاً بغير طاقة على التغيير، فكم كتبت روايات، وصدرت دواوين شعر، وأقيمت معارض، وافتتحت مسرحيات، وصنعت أفلام سينمائية، من دون أن يحدث كل هذا ما يلفت النظر.

اليوم يسبق الفعل الحياتي، الفعل الثقافي، ليكون هو الجديد المتقدّم، بفضل صفته الأكثر سطوعاً، يقابله فن وثقافة يطمحان إلى مواكبته والصعود عالياً حيث هو، وليكون تحدي الشاعر أن تكون قصيدته على قدر نبضات أطفال المخيمات وبرد الأصابع، أو صور الشهداء من النساء والأطفال، أو الحرمان الرهيب الذي يعيشه السوريون اليوم ممن التصقوا به طويلاً، بلاد كمحتف كبير، عاشوا فيها ومعها لا كأدلاء سياحيين كما في مصر وسواها، بل كسيّاح حقيقيين، يكتشفون صباح كل يوم جديداً حياً في متحفهم الحي ذاك، واليوم يرونه وهو يتهشّم تحت البراميل المتفجرة وصواريخ سكود.

إن هذا الحدث بحدّ ذاته، منجز إنساني كبير يعبره السوريون منتقلين من الوصف في روايات وأفلام صدرت هذا العام تحكي عن فساد نظام الأسد والمجتمع الذي صنعه، وعن يوميات الأحياء في حمص وحلب وحماة، إلى القطيعة مع الألم، والوصول إلى ضفاف الخلق من جديد، خلق الثقافة والإنسان عميقاً وحارّاً وأصيلاً في الآن ذاته.

الصحافة البديلة التي ينتجها السوريون من حصاد الثقافة وهي مرانٌ قاسٍ وغير محدود على الكتابة والتعبير والجودة في إنتاج التقرير والمادة الإذاعية والبصرية، الأفلام القصيرة التي لم يملّ من تصويرها الشباب، البرامج المتهكمة التي تنتشر على صفحات الفيس بوك، الكتب التي تتخلص من إرثها القديم يوماً بعد يوم، لوحات الرسّامين الكبار والشباب، فنون الملصقات وأنماطها، يقرأ فيها الممعن في النظر تحولات غير عادية ما كانت لتحصل بهذه السرعة عبر تفاصيل السرد والحركة، وكانت من قبلُ علّة الفن السوري بأصنافه، الإيقاع الذي يكاد يكون ميتاً يصبح اليوم ضاجّاً بالحياة كقلب يعود إلى الخفقان.

وحدها الثقافة قادرة على النهوض بالسوريين من مأساتهم، لتكون حاملاً حقيقياً لمطالبهم التي تجاوزت السياسي من زمن إلى الإنساني الأساسي العالمي، ومن غير الثقافة لا يفلح أي جسم سياسي أو عســكري في الوصول إلى ما تقبض عليه اليد.**

المحرر

وأضاف: “نحن بحاجة إلى ثقافة عربية لا تقوم على تعزيز السلطان وتأليهه، ثقافة تنحاز للإنسان وتشبهه، ثقافة تجعلني أقول أنا عربي لست إرهابيا ولا مجنونًا، ربما هي إعادة إنتاج للواقع أو لنقل نسف الواقع الحالي وبناء واقع جديد”.

ولفت مكسور إلى أن أفضل الكتب التي قرأها خلال العام المنصرم هي رواية السوري هيثم حسين “إبرة الرعب”، و”كاباريهت” للروائي والمسرحي البلجيكي من أصل عراقي حازم كمال الدين، ورواية “نزلاء العتمة” لزياد محافظة، وكتاب للسوري محمد منصور يتحدث فيه عن دمشق وتحولاتها، فضلاً عن متابعته الحثيثة لكل ما يكتب عن الانتفاضة السورية سواء عربياً أو عالمياً.

وعن رؤيته لحال المسرح العربي ومدى تعبيره عن أصوات المجتمع قال مكسور: “طالما أننا نفتقد الاحترام في الإنتاج والإبداع والإخراج والتسويق، لا أظن أنه سيكون لدينا مسرح حقيقي في وقت قريب، المسرح كان في فترة ما صوت الناس وصورتهم، أما الآن فأعتقد أنه خبا وغاب نوره بسبب فورة الاتصال الموجودة في العالم الذي أصبح قرية صغيرة، ألسنا نعيش في مسرح كبير ونحن ممثلون فيه، نموت ونحيا ونهرب من القدر لنقع في قدر آخر، أليس القاتل في المسرحية التي نعيشها هو البطل بينما الضحية هارب مصاب مخذول مقموع، هذه المسرحية التي نعيشها بكل فصولها هي ربما أهم مسرحية أنتجها العرب في كل أدبهم”.


اليأس سيكون أمرا عابرا


الكاتب والمترجم السوري راتب شعبو يؤكد أن كل الأدب السوري الذي قرأه عن “الربيع العربي” كان وصفيًا يتوخى التأريخ ويستمد قيمته بالدرجة الأولى من قيمة الحدث الذي يتناوله ثم من قيمته الفنية مثل رواية “جداريات الشام” لنبيل سليمان، و”تقاطع نيران” لسمر يزبك، وهي أقرب إلى التوثيق، و”بنسيون مريم” لنبيل ملحم، لافتًا إلى أن هذه المرحلة في التاريخ العربي ستكون إطاراً للعمل الأدبي لسنوات طويلة قادمة، باعتبارها نقطة تحول في تاريخ العرب.

وعن أوجه قصور الثقافة العربية خلال العام المنصرم يشير شعبو إلى أنه بالفعل ربيع دام لا سيما في سوريا، وتعود دمويّته في جزء منـــها إلى القصور الثقافي العام في بلداننا. حيث قصّرت الثقافة العربية “العالِمة” في استيعاب هذا التحول الحاد في الحقل السياسي العربي. فالإنتاج الثقافي العربي، لم يكن على مستوى التحولات التي مهّدت للانفجار الشعبي العربي. لا توجد إنجازات ثقافية ذات قيمة.

ويستطرد: “الإنجاز الكبير الذي تحقق لم يكن على صعيد الثقافة بحصر المعنى، بل على صعيد انكشاف عجز الثقافة عن الإحاطة بظاهرة “الربيع العربي”، الأمر الذي وضع الجميع أمام إعادة نظر قسرية بقناعاته. وعلى ضوء القول الشهير للفيلسوف نيتشه: “عدو الحقيقة ليس الكذب وإنما القناعات”، فإن هذا إنجاز لا يستخف به”.

يوضح شعبو أن أبرز الظواهر الثقافية التي غزت الساحة العربية خلال العام المنصرم هي ظاهرة السلفية الجهادية، والتنظير لها والارتكاسات المختلفة بشأنها. وإذا كانت هذه الظاهرة شكلت استجابة لنزوع الجمهور لمواجهة أنظمة في منتهى الوحشية والانحطاط الأخلاقي والسياسي، فإنها ظاهرة دفنت معنى “الربيع العربي”، وساهمت في المحصلة في تعزيز مواقع الثورة المضادة وتكريس أسوأ مظاهر الثقافة العربية. من ناحية أخرى، كشفت الثورات العربية عن تراجع ملموس في اللغة “الوطنية” التي سادت لعقود خلت. ويشكل هذا استجابة لمعضلة ضرورة تغيير الأنظمة مع العجز المحلي عن إنجاز هذه المهمة، ما يجعل من “الاستعانة بالخارج” أمرا لازما.

وفيما يتعلق بالثقافة الشعبية ومدى تطورها يقول شعبو: “أعتقد أن الثقافة الشعبية هي المتأثر الأكبر بظاهرة الربيع العربي، والتأثر جاء سلبا وإيجابا. الثورة في حدّ ذاتها دربت الناس على الاقتناع بأن “الشعب” يمكنه أن يفعل الكثير “إذا أراد الحياة”. هذه قناعة كانت في الثقافة الشعبية مجرد بيت من الشعر وقولا بلا رصيد واقعي. اليوم باتت حقيقة ملموسة للجميع بعد أن أدرك الجميع أنه يمكن تجاوز الخوف. ولكن مع تعثر الربيع العربي وتحوله في سوريا إلى صراع دام على السلطة بين متطرفين إسلاميين “داعش” و”جبهة النصرة” وأشباهها من جهة، وبين متطرفين سلطويين “نظام الأسد” من جهة أخرى، راح يدخل في الوعي العام نفور ويأس من محاولات التغيير العام. غير أن اليأس سيكون أمراً عابراً أمام إدراك الناس قدرتهم الفعلية على التغيير”.

كانت علة الفن السوري من قبل، الإيقاع الذي يكاد يكون ميتا وها هو يصبح ضاجا بالحياة كقلب يعود إلى الخفقان


لا أبدية ولا توريث


ويضيف: “لم يعد في فكر الناس مكان للكلام عن “الأبدية” والتوريث. سقطت فكرة “الجمهورية الوراثية”، ونزل الزعيم من المرتبة الإلهية إلى مرتبة دنيوية، يخطئ ويجرّم ويحاكم ويحاسب على ما ارتكب من أفعال في تطور مهم في الوعي العام يعيد السلطة إلى مصدرها الشعب”.

ويلفت إلى أن هناك عددًا من الكتب الهامة التي قرأها في 2014 على رأسها “وعّاظ السلاطين”، و”مهزلة العقل البشري” للكاتب العراقي علي الوردي، وهما رغم قدم عهدهما من الكتب الهامة، ولا سيما لوقتنا هذا الذي يعيش فيه العقل محنة جدية، “العلمانية من منظور مختلف” لعزيز العظمة، “انفجار المشرق العربي” لجورج قرم، ترجمة محمد علي مقلد، “التسلطية في سورية: الصراع بين المجتمع والدولة” لستيفن هايدمان، ترجمة: عباس عباس، أما في الشعر، قرأت ديوان (داكن) للشاعر السوري منذر المصري. وبقدر ما يمكنني أن أحكم بذائقتي الشعرية البسيطة سأقول إن منذر من أفضــل من كتب قصيدة النثر.

15