أسعد فرزات رسام السوريين في مسيرة ألمهم

رسام سوري ينقب بين الوجوه بحثا عن وجهه الضائع.
الأحد 2022/06/05
فنان متمرّد ينقّب بفنه عن هوية جديدة

يلجأ بعض الرسامين إلى رسم وجوه الآخرين بحثا عن وجوههم. تلك معادلة لا يجيد تركيب عناصرها كثيرون. فالمسألة لا تتعلق بابتكار هيئة لوجه ما بل باستحضار لحظات الشقاء التي تجعل ذلك الوجه لا يشبه وجها سواه.

ذلك ما حاوله السوري أسعد فرزات وهو ينقب بين الوجوه بحثا عن وجهه الضائع. سيكون عليه أن يرتاد عالم الأشباح ليعود في كل مرة بلقية جديدة.

وجه من اختراعه غير أنه لا يخطئ الطريق الذي يصل الوضع البشري بإنسانية تكاد تفقد توازنها لما تواجهه من حالات هلع وذعر وخوف.

لذلك فإن وجوهه تُظهر بقدر ما تستطيع ولعها باستنطاق عالمها الداخلي. ذلك الفضاء غير المرئي الذي يحاول الرسام محاكاته والتحايل عليه من أجل استخراج المزيد من الكلام في عالم يعمه الصمت.

صورة فرزات التي لا تخطئها حقيقة أنه يقف في مقدمة الفنانين السوريين الطليعيين حين يتأمل عالما مهدوما ليركب من مفرداته عالما جماليا، يكون فيه الألم العنصر الأساس في التجربة الإنسانية

يقول فرزات “إن ملامح الوجوه ضاعت في المعتقلات أو ابتلعها البحر أو اندمجت مع الصقيع”.

خرائط الألم وأخوة مشتركة

بطريقة غير مباشرة يرسم فرزات خارطة لألم إنساني. هي أجزاء مقتطعة من تجربة عيش على الهاوية التي صنعتها حرب عبثية ستحتل مكانا بارزا في ذاكرة أجيال ستعيش الفقد باعتباره لازمة حياة.

بدلا من أن يرسم وجهه بحثا عن معاناته الشخصية كما فعل فنسنت فان كوخ، فإن فرزات صار يتنقل بين وجوه الآخرين بحثا عن التجربة التي تصنع تاريخ أخوة مشتركة تقف عند حدود الضياع.

ذلك نوع من البحث عن هوية جديدة يتمرد عليها الفرد غير أنها ستلقي بظلالها على مصيره المجهول. الغربة التي لا تُسمى كما لو أنها عدو لا يملك سوى أن يؤجل ضغينته.

سيبحث الآخرون عن وجوههم في رسومه. ولكن مَن هم أولئك الآخرون؟ ذلك سؤال وجودي لا يمل فرزات من طرحه. هل هم السوريون في شتاتهم أم هم البشر المضيَعون الذين انتهوا إلى الجدار؟

ولد فرزات عام 1959 في حماة في عائلة شغف أفرادها بالفن. شقيقه هو رسام الكاريكاتير الشهير علي فرزات. درس الرسم في كلية الفنون الجميلة بدمشق وتخرج منها عام 1986 ومن ثم قام بالتدريس في معهد الفنون الجميلة وغادر سوريا عام 2014 إلى سويسرا.

حين نشبت الحرب في سوريا وضاع الأمل في تغيير الواقع السياسي سلميا، أدرك فرزات أن شيئا جوهريا تبدل في الوجود السوري، ستعبر عنه وجوه الهاربين من جحيم الحرب والمشردين والباحثين عن قشة إنقاذ في بحر من الظلمات فقال جملته الموجعة “وجوهنا نحن السوريين غادرتنا نحو العالم الآخر”.

صار يرسم كمَن يصف الموت. يحاول أن يكون هناك بقوة بنيته الأسلوبية التعبيرية. صارت نزهته بين الوجوه أشبه بإقامة في “بيت الأموات” حسب ديستويفسكي.

في الحرب يرى المرء وجوها لم يكن قد تعرف عليها من قبل. ذلك ما أحدث تحولا عظيما في أسلوب الرسام الذي صار يتجه إلى التعبير الملحمي بحيث باتت لوحته تتضمن مزجا بين ما هو معيش وما هو متخيل، كما لو أنه صار يرى الواقع باعتباره أسطورة بمكن أن تُصدّق لكن من خلال الفن. يؤسطر فرزات وقائع عيش عادية يعرف أنها لا تتكرر ولا تتشابه ولا يمكن مقارنتها بأي حياة أخرى، حتى ولو بحياة المرء نفسه.

سيكون عليه يوما ما أن يقول “الحرب رسمت الجزء الأكبر من لوحاتي” ولكنها حرب العاجزين الذين رسم وجوههم وهو يبحث عن وجهه الضائع بينها.

بحثا عن جثث المغدورين

خلاصة تجربة فنية
خلاصة تجربة فنية 

 في معرضه “حكايا مصورة من شرق المتوسط” الذي أقامه بباريس هذا العام، يقدم فرزات واحدة من أهم الخلاصات الأسلوبية والتقنية والفكرية لتجربته الفنية. فالفنان التعبيري وجد في التماهي مع النص الأدبي الذي مثلته قصيدة الشاعر السوري نوري الجراح “الخروج من شرق المتوسط” مناسبة للمزج بين عالمين. عالم كان قد عاشه باعتباره العين التي رأت في وجوه السوريين ملامح الهلع والخوف والرعب وعالم شكلته المخيلة الشعرية بمفردات التقطها الشاعر الجراح من عمق التجربة الوجودية التي عاشها وهو يحيل المعاناة إلى كلمات.

صدام بين فضائين، فضاء الصورة وفضاء الكلمة يسر عملية الانقضاض على الصورة في طزاجتها كما لو أنها تلك الفاكهة المحرمة التي صار التهامها واجبا قسريا. لقد التقط فرزات مفرداته التي تشظت من ذلك الصدام كما لو أنه يجمع في سلته صرخات بشر هائمين لم يكن تصويرهم ممكنا بعد أن حولهم العصف إلى رماد. ربما رأى الشاعر في رسوم فرزات ما لم يره وهو يتصفح أوراق التغريبة السورية مستعينا بمخيلة مفتوحة على كل التوقعات. ذلك لأن الرسام كان مستعدا للغوص بعدة جاهزة في البحر بحثا عن جثث المغدورين.

نساء فرزات لسن واقعيات تماما، وإن كان في بعض الأحيان يرسم وجوه نساء يعرفهن، غير أنه يرسم تلك الوجوه كما لو أنه يستخرجهن من باطن حكاية لا تزال تُروى وستظل كذلك

هل يمكن أن يتحول الألم إلى حكاية مصورة؟ مثلما استخرج الشاعر مفرداته من عالم يضج باللوعة والاشتياق فإن الرسام يفكك الصمت من حوله ليُنشئ عمارة من الأجساد المهدمة التي تعلوها وجوه بعيون فارغة. سيكون الوصول إلى شرق المتوسط أشبه بعملية الانتقال من طبقة إلى أخرى من طبقات الجحيم البشري. كل هذا صنعه الألم ولكن الألم نفسه يظل مغمورا بضبابه التجريدي.

حاملا وجوه السوريين معه أينما رحل. تلك صورة فرزات التي لا تخطئها حقيقة أنه يقف في مقدمة الفنانين السوريين الطليعيين حين يتأمل عالما مهدوما ليركب من مفرداته عالما جماليا، يكون فيه الألم العنصر الأساس في التجربة الإنسانية.

ذلك ما لا يمكن النظر إليه من زاوية يسودها الغموض السلبي للإرادة. ففي كل لوحة من لوحاته يخط فرزات سطور رسالة مزدوجة المعاني. فهي من جهة تتوجه إلى الضمير العالمي لكي ينتبه إلى حجم الجريمة التي يمثلها تشرد شعب وضياعه، وهي من جهة أخرى تتوجه إلى السوريين من أجل أن ينتصروا على حالة ضياعهم.

يدرك فرزات أن الصوت السياسي فيه إنما هو تفصيل من محاولة محاكاة الجمال في المعاناة البشرية. فهو رسام قبل أن يكون سياسيا. وقد يُمحى السياسي ويبقى الفنان. لذلك فإنه يعمل جاهدا على أن يدوم أثر الجمال حتى بعد أن تغيب الوقائع المأساوية المباشرة. ذلك ما يهب أعماله صفة عالمية تخرج بها عن نطاق المحلية المباشرة. تصلح رسوم فرزات أن تُرى في كل مكان وكل زمان.

جمال يتشبه بالعصف

ما يراه الفنان
ما يراه الفنان

“يحتاج الرسم إلى حكاية” يقول فرزات وهو يحدد موقفه التعبيري من العالم. ما يراه الفنان يسند ما سمعه ويؤكده. كانت نساء الحكايات الخرافية جميلات وهو ما انعكس على صورتهن حيث ميل الرسام الواضح إلى رسم النساء كائنات تحضر في مختلف الحالات وبمختلف الأوضاع.

نساء فرزات لسن نساء واقعيات تماما، وإن كان في بعض الأحيان يرسم وجوه نساء يعرفهن، غير أنه يرسم تلك الوجوه كما لو أنه يستخرجهن من باطن حكاية لا تزال تُروى وستظل كذلك، كونها تنتمي إلى نوع الحكايات التي لا تنتهي. وهي ليست حكايات الطفولة وحدها بل هي أيضا الحكايات التي صارت بديلا عن الحياة الحقة لدى السوريين.

يلذ للرسام أن يروي لكن بطريقة غامضة هي الطريقة التي تنسجم مع أدواته في التعبير. الرسم يكسب الحكايات لحما وعظاما لكن التعبير لا يكتفي بذلك حين يضع الصورة في قلب العاصفة. يفعل فرزات ذلك بحكايات الهروب والاقتلاع والنجاة والغربة التي يتداولها السوريون من غير أن يكون هدفه وصفها. فالصور لا تخرج إلا بعد أن تمر بمصفاته الجمالية. جمال رسوم أسعد فرزات يقع في فوهة البركان.

9