أزمة أبحاث وتصنيع تضع العرب خارج سباق اللقاحات

عوائق قانونية وبيروقراطية لإجازة الأبحاث تعترض طريق التجارب السريرية، والافتقار لشركات عربية عملاقة عاملة في مجال الدواء يبدد الاستفادة من الأبحاث.
الخميس 2021/02/11
أزمة كفاءات أم اعتمادات

دخل العالم العربي سباق اللقاحات أعقاب ظهور الجائحة من باب البحث عن سبل التزود بها من كبرى المخابر العالمية لتأمين التطعيم لشعوبها والحد من انتشار الفايروس لا من باب المصنع، وهو ما يعري ضعف البحث العلمي في المنطقة، الذي يعاني صعوبات عدة من ضمنها العوائق القانونية والبيروقراطية التي تعترض طريق التجارب السريرية حسب الباحثين، إضافة إلى افتقار شركات عربية عملاقة عاملة في مجال الدواء، لكن تبقى المشكلة الأهم هي استمرار التبعية للغرب وأزمة ثقة في ما تقدمه الكفاءات العربية.

القاهرة – كشفت معارك الحصول على لقاحات كورونا التي تدور رحاها حاليا وعدم قدرة الدول العربية على الوفاء باحتياجاتها اللازمة، عن جملة من الأزمات التي تواجه البحث العلمي العربي، وظل تابعا لما توصلت إليه التجارب والأبحاث الغربية، ناهيك عن الصين وروسيا، مع إنتاج لقاحات يجري توزيعها على نطاق واسع حول العالم.

ومع أن دولا عربية سارعت بالإعلان عن إجراء أبحاث معملية للتعرف على فايروس كورونا وكيفية التعامل معه، إلا أن ذلك لم يفض إلى شيء حقيقي وملموس حتى الآن، بل خفت مستوى النشاط العلمي الذي تصاعد خلال الشهور الأولى من انتشار كورونا، ولم يخرج الأمر في الكثير من الدول العربية عن إطار تقديم الحكومات منحا ومساعدات، وهي صيغة غير كافية لإيجاد بيئة داعمة للمنافسة العلمية.

وأعلن أمين عام اتحاد الجامعات العربية عمرو عزت سلامة، أن أرقام الأبحاث العلمية التي أنتجتها جامعات عربية حول فايروس كورونا، وصل إلى نحو 400 بحث علمي، شملت التوصل إلى طرق وأساليب مبتكرة للوقاية من انتشاره، والوصول إلى لقاح وعلاجات مُضادة، واكتشاف طرق وآليات تستهدف سرعة الكشف والتشخيص للأشخاص المُصابين.

تلك الأبحاث وغيرها من التجارب التي قدمتها مراكز البحوث وبعض العاملين في القطاعات الطبية لم يتحول أي منها إلى لقاح معتمد من منظمة الصحة العالمية، وتوقفت غالبية الأبحاث عند مرحلة التجارب السريرية التي تجابه في بعض الدول العربية مشكلات قانونية عديدة، إضافة إلى عدم الثقة في ما يقدمه العلماء العرب في بلدانهم.

وأجمع العلماء والباحثون الذين تواصلت معهم “العرب”، على أن هناك حلقة مفقودة بين البحث العلمي الذي يعاني أصلا من مشكلات عديدة، من ناحية البيئة الداعمة وعدم توفر المقدرات المالية المطلوبة، وبين تحويل تلك الأبحاث إلى لقاحات يجري تصنيعها داخل شركات الدواء.

الأزمة في القوانين

أيمن الشبيني: علماء الداخل يعملون وفقا لما هو متاح من إمكانيات
أيمن الشبيني: علماء الداخل يعملون وفقا لما هو متاح من إمكانيات

تعد المراحل الفاصلة بين الانتهاء من البحث والتي تشمل التجارب السريرية واعتماد اللقاح من الجهات الحكومية ووصولا إلى شركات التصنيع، هي السبب الرئيسي في غياب الدول العربية عن السباق العلمي الدولي المشتعل حاليا.

وأشار أستاذ الهندسة الوراثية والفايروسات بالمركز القومي للبحوث (حكومي مصري) مصطفى العوضي، إلى أن “العديد من الدول العربية تمتلك من العلماء القادرين على تخليق لقاحات لفايروس كورونا، أو غيرها من الفايروسات، والأزمة تكمن في القوانين الحاكمة التي تدعم خروج الأبحاث من معامل التجارب حتى تصل إلى الإنسان وتكون قابلة للتطبيق على أرض الواقع، وهذه القوانين مسؤولية الجهات الحكومية التي تمنح حق استخدام اللقاح مثل وزارة الصحة وهيئة الدواء، كما هو متبع في مصر”.

وأضاف لـ“العرب”، أن “دور العلماء في الوصول إلى اللقاحات المناسبة يكون من خلال تخليقها وتجربتها على الخلايا والحيوانات واستخراج المناسب منها، قبل أن تنتقل المسؤولية إلى جهات أخرى تتولى التعامل مع ما توصل إليه العلماء وإتاحة إمكانية إجراء التجارب السريرية عليه، وتحتاج إلى موافقات قانونية ليست سهلة، تمهيدا للإجازة والتصنيع”.

وأوضح أن “هناك أزمة ثقة في قدرة العلماء العرب بوجه عام، في التوصل إلى اللقاحات، وثمة تجارب وأبحاث لم تر النور، وجرى إلقاء نتائجها في سلة المهملات، لوجود جهات لا تثق في ما توصل إليه العلماء”، مشيرا إلى أنه “تمكن من نشر أحد الأبحاث بشأن المتطلبات العلمية اللازمة لإنتاج لقاح كورونا، وتوقع أن تكون هناك سلالات جديدة من الفايروس، لكن ستكون أقل شراسة”.

غياب التعاون العربي

طاهر قرقاح: بحوثنا إما وقع تصديرها إلى الخارج وإما بقيت في رفوف الجامعات
طاهر قرقاح: بحوثنا إما وقع تصديرها إلى الخارج وإما بقيت في رفوف الجامعات

ويقول بعض العلماء العرب، إنه من الظلم تحميلهم مسؤولية عدم القدرة على المنافسة عالميا، حيث لا يتم استغلال الطاقات التي يمكن أن تحدث الفارق بشكل سليم، كما أن المشكلة ليست في التمويل، فبعض الدول ترصد ميزانيات جيدة للبحث العلمي ووضعت مخصصات إضافية لأبحاث كورونا، غير أنها لا تدار بطريقة سليمة.

وذهب أستاذ علم الفايروسات بجامعة زويل العلمية في القاهرة أيمن الشبيني، للتأكيد على أن عدم وجود شركات عربية عملاقة عاملة في مجال الدواء يدفع باتجاه عدم الاستفادة من الأبحاث التي توصل إليها عدد من العلماء العرب بشأن علاج كورونا، وأن الأزمة قد تكون صناعية، لأن هناك عقولا عربية تعمل في الداخل والخارج لديها نجاحات مهمة، وعبرت عن نفسها بشكل جيد منذ انتشار الجائحة.

وأشار في تصريح لـ“العرب”، إلى أن “الدول العربية ينقصها الاهتمام بالصناعات الدوائية وتوفير الكفاءات الخاصة بها، مع ضرورة أن تكون على مستوى عال من التكنولوجيا الحديثة التي تضمن خروج منتج معتمد، وهو أمر ليس بالسهل وسيكون بحاجة إلى تشارك عربي بين أكثر من دولة لمجاراة الشركات العملاقة العالمية التي لديها إمكانيات تجعلها مهيمنة على سوق الدواء”.

تسلط تلك الرؤية الضوء على غياب

الكوادر العربية جاهزة للتعامل مع حركة تطور الفايروسات
الكوادر العربية جاهزة للتعامل مع حركة تطور الفايروسات

التعاون العربي في مجالات البحث العلمي، والذي يأتي في مرتبة متأخرة على مستوى العلاقات بين المؤسسات البحثية، إلى جانب غياب عامل مهم في تمويل تلك الشركات يرتبط برؤوس الأموال والاستثمارات التي يضخها القطاع الخاص لاستثمار العقول العربية

ودعمها، في حين تتحمل الحكومات مسؤولية تمويل البحث العلمي والنشاطات الأخرى المرتبطة به.

وأكد الشبيني، وهو مدير المعاهد البحثية بمدينة زويل العلمية، أن “علماء الداخل يعملون وفقا لما هو متاح من إمكانيات، وهناك تطور على المستوى البحثي لكن بحاجة إلى اهتمام حكومي أكبر يدعمه، إلى جانب دعم القطاع الخاص الذي يخشى توجيه استثماراته للمجالات العلمية”.

ويشكل غياب القواعد الصناعية والإنتاجية لدى الدول العربية في مجال الدواء سببا مباشرا في عدم الاستفادة من المبعوثين إلى الخارج، والذين أمامهم إما العودة إلى بلدانهم بعد الحصول على درجة الدكتوراه من دون أن يجري توظيفهم والاستفادة من خبراتهم بشكل جيد، وإما يستمرون في العمل بالخارج حيث البيئة والأجواء العلمية الملائمة التي تساعد على تحويل أبحاثهم إلى اكتشافات تستفيد منها البشرية.

ويرى أخصائي علم الأمراض ببروكسيل محمد مسلم الحسيني، أن الدول العربية تعاني من عدم وجود قواعد علمية يمكنها التصدي لتطور حركة الفايروسات خلال العقود الثلاثة الماضية، بعد تحورها وتطورها ومهاجمتها للإنسان والحيوان على حد سواء في سائر بقاع العالم، وأن المشكلة لا تكمن في عدم توفر المخصصات المالية، لأن العديد من الدول لديها القدرة على إنشاء مختبرات بحوث متخصصة في شؤون الفايروسات دون غيرها، لأنها تشكل مصدر خطورة في العصر الراهن.

محمد مسلم الحسيني: لا توجد قواعد علمية عربية قادرة على ملاحقة تحور الفايروسات
محمد مسلم الحسيني: لا توجد قواعد علمية عربية قادرة على ملاحقة تحور الفايروسات

وأضاف لـ“العرب”، أن الكوادر العربية جاهزة للتعامل مع حركة تطور الفايروسات والقدرات المالية متوفرة والتقنيات ليست بعيدة، وما ينقص البلدان العربية هو “عدم وجود إرادة علمية وسياسية للحضور القوي على المستوى العالمي، بما لا يجعلنا تابعين لما يذهب إليه الغرب”.

وأكد الباحث العراقي أن “الثقافة الصحيّة الصحيحة المبنية على نصائح أهل الاختصاص والواجب نشرها بوسائل الإعلام المهمة من جهة، والبحث العلمي التخصصي الرصين تحت إشراف الكفاءات العلمية المعنية القائم في مراكز مؤهلة تقنيا من جهة أخرى، يعتبران من العناصر الهامة من أجل التحصن والانبعاث والسيطرة على أي طارئ مخيف وخطر ممكن وتهديد أكيد”.

ويؤثر عدم وجود بنية علمية قوية لدى الدول العربية بشكل سلبي على التعامل مع ما يجري التوصل إليه من قبل العلماء العرب، لأنه بوجه عام لا توجد ثقافة تجعل البحث العلمي على رأس أولويات المجتمعات العربية، وهو أمر يظهر من خلال أرقام الأبحاث والمقالات المنشورة باللغة العربية في الدوريات العلمية العالمية.

يضم دليل المجلات المحكمة المفتوحة الوصول “DOAJ” حوالي 3.977 مقالة مفتوحة الوصول منشورة باللغة العربية، وفقا لبوابة اليونسكو، ويمثل هذا الرقم 0.02 في المئة فقط من حوالي مليوني مقالة متاحة في الدليل.

لعل ذلك يعد أحد الأسباب التي جعلت دولة مثل تونس لا تستفيد مما توصل إليه فريقها البحثي بمخبر المستشفى الجامعي “شارل نيكول” بالعاصمة، حيث تمكن في شهر أبريل الماضي من القيام بالتقطيع الجيني للفايروس، في خطوة لاقت استحسانا محليا ودوليا، وكان من المتوقع أن تحفز الكفاءات على مواصلة عملهم، لكنها لم تكن كافية لإيجاد حل للجائحة من داخل البلاد دون الاضطرار إلى هرولة إلى المخابر العالمية.

ورصد عضو اللجنة العلمية لمجابهة كورونا في تونس طاهر قرقاح في حديثه لـ“العرب”، مكامن ضعف البحث العلمي في بلده، قائلا “تتمثل الأزمة الحقيقية في عدم توفير البنية التحتية الخاصة به، إلى جانب عدم توفير قوانين تعني بالباحث بالشكل الذي يسمح له بالتفرغ إلى بحوثه”.

محمد ملهاق: قرار الدول العربية بيدها متى توافرت الإرادة السياسية
محمد ملهاق: قرار الدول العربية بيدها متى توافرت الإرادة السياسية

وأضاف “أهملنا البحث العلمي ولم نخصص له الموازنة الكافية ولم ندخله في ثقافتنا، ولم ندعم جهود الباحثين، إذ أن الاعتمادات المالية الخاصة بالبحث العلمي غير كافية، كما أنها ركزت فقط على الجامعات والقطاع العام، في حين لم تول الاهتمام بالقطاع الخاص”، لافتا إلى “توفر مخابر لتصنيع الأدوية، وعدم وجود مبادرات لتطويرها، ولا يقع التركيز إلا على الربح المالي”.

وأكد قرقاح أن “البحوث والأطروحات بقيت على رفوف الجامعات، فيما هناك عجز على تجسيمها في ظل غياب الإمكانيات، على رغم من الحصول في مرات كثيرة على براءة الاختراع”.

ويملك معهد باستور، وهو مستشفى ومركز دراسات وأبحاث طبية عريق في تونس، وحدة تصنيع لكن تعوزه الإمكانيات بسبب ضعف التمويل، وسبق أن أقرت وزارة التعليم العالي بأن الموازنة المخصصة للبحوث لا تتجاوز 0.67  في المئة من الناتج المحلي.

ويرى الكاتب العام لجامعة التعليم العالي والبحث العلمي في تونس حسين بوجرة، أن “هناك عجزا واضحا للهياكل العلمية في مواجهة تحديات تحت أي مسمى إن كان وباء أو مشكلات التنمية ونقل التكنولوجيا”.

ورغم ملامح التطور والاهتمام تدريجيا بمسألة البحث العلمي بتخصيص دعم مالي أكبر مقارنة بالسابق، إلا أن هذا التطور ليس في نفس المستوى المطلوب باعتبار أن التحديات أكبر بكثير، وأضيفت إليها مشكلات ظرفية أخرى، مثل أزمة كورونا.

واعتبر بوجرة أن “الهياكل الصحية والطبية رغم قدرتها على مواجهة انتشار الوباء وتفشيه، فإن المداواة والمعالجة بينت عجز البحوث العلمية المحلية”، وأرجع ذلك “إلى غياب الحوكمة الرشيدة، والثقل البيروقراطي الكبير من عيوب الهياكل البحثية في الدول العربية، كما أن الحكومة لم تنجح في ضبط العلاقة بين البحث العلمي والتدريس”.

تبعية مستمرة

صورة

يسلط خبراء وباحثون الضوء على معضلة أخرى تعيق تطور البحوث العربية، وهي التعويل على الآخر في ظل استمرار التبعية العلمية للغرب.

وأبدى خبير الصحة العمومية بالجزائر محمد كواش، في تصريح لـ“العرب”، أسفه على استمرار العرب من الحدود إلى الحدود في رسم مظاهر التخلف والتأخر عن الحضارة والعلم، بسباقهم على شراء اللقاح وتأكيد تبعيتهم التاريخية للدول المصنعة والمنتجة للعلوم، في حين أنهم في الأصل كانوا سباقين في العلم والبحث.

وقال “ما يزيد من وجع الأمة العربية أن أغلبية المخابر العالمية المنتجة لللقاح، أو التي تقوم بالبحوث يوجد فيها دكاترة وعلماء من أصول عربية، والأمر بسيط وراجع لعدم فتح المجال للعلم والبحث في البلد الأصل، أو حتى عدم المبادرة لتشجيع العقول المحلية على الأقل في بحوث نظرية لإنتاج اللقاح”.

وبرأيه فإن “عملية إنتاج اللقاحات هي معركة دون دخان هدفها الأول والأكيد الاستحواذ على السوق العالمية والتمكن من أكبر طالبيه من الدول المتخلفة، وبالتالي تحقيق أرباح مالية خيالية وإعطاء مصداقية وشهرة للمخابر المنتجة”.

وخلص كواش إلى أن “مصير العرب كمجموعة بشرية بعد كورونا، يكرس استمرار التبعية والاحتلال وعدم القدرة على الوقوف لمواجهة أي طارئ مهما كان نوعه، وبات من الضروري أخذ العبرة من هذه الجائحة، بالاعتماد على الاستشراف واتخاذ الإجراءات الاستباقية لمواجهة الكوارث الطارئة، وإرساء منظومات تقوم على العلم والعلماء”.

أما الباحث في علم الفايروسات والبيولوجي السابق محمد ملهاق، فقد أرجع في حديثه لـ“العرب” الغياب العربي عن سباق لقاحات كورونا، إلى منظومة القيم السائدة والتي تعاني اختلالا كبيرا في ترتيب المبادئ الحقيقية التي تبنى عليها المجتمعات الناجحة، إلى جانب ظهور تحالف الرداءة والفساد الذي تشترك فيه عدة دول عربية، ما وضع الكفاءات العربية أمام خيارين لا ثالث لهما، وهما البطالة المقنعة أو الهجرة إلى الخارج. ونفى ملهاق ما يروج في قالب المؤامرة المسوقة في الوطن العربي، حول دور القوى الكبرى في وضعية التخلف التي تعيشها المجتمعات العربية، ووقوفها في وجه جهود التنمية والتطور والمساهمة في بناء الحضارة المعاصرة، معتبرا أن قرار الدول العربية بيدها متى توافرت الإرادة السياسية.

شارك في التحقيق: 
أحمد جمال من القاهرة
آمنة جبران من تونس 
صابر بليدي من الجزائر

13