أزمات الشرق الأوسط المتصاعدة: في الماضي تفسير لما يجري راهنا

رغم اندلاع ثورات الربيع العربي والتغيرات التي تشهدها المنطقة العربية، إلا أنه لم تطرح بعد المحاولات التي تصب في نقد للتاريخ السياسي العربي المعاصر، وخاصة المراحل المفصلية التي مرت بها المنطقة، ودور الأحزاب والتيارات السياسية التي حكمت سابقا، وانهارت أفكارها. وغياب هذا النقد جعل الأخطاء التي شهدتها المنطقة في بداية القرن تتكرر الآن أمامنا.
ويكشف عن هذا الخلل الكاتب والصحافي اللبناني سليمان الفرزلي في كتابه الجديد “حروب الناصرية والبعث” الصادر عن دار نوفل هاشيت أنطوان، والذي يقدم من خلاله قراءة نقدية مقارنة للصراع العربي إبان الوحدة بين سوريا ومصر، في محاولة لتفكيك المفاهيم المرتبطة بتلك الفترة لإعادة النظر فيها، وخصوصا في ظل فشل كلا المشروعين في تحقيق أهدافهما أو أهداف الجماهير التي يدعي كلاهما أنه يمثلها.
ويتناول الفرزلي الوحدة السورية المصرية، وخصوصا العلاقة المضطربة بين الحزبين اللذين كانا ناشطين بشدة في تلك الفترة بوصفهما ثوريين أو الأكثر ثورية، وهما حزب البعث في العراق وسوريا إلى جانب الناصرية في مصر بقيادة جمال عبدالناصر.
ويشرح سياسة كلا الحزبين وأخطاءهما وما مارساه من دكتاتورية، وبيّن سياسة عبدالناصر سواء في مصر، أو في سوريا أيام الوحدة عبر إطلاق يد عبدالحميد السراج فيها، وتجاهل حزب البعث وتهميشه. والتكتيك الذي مارسه عبدالناصر بوضعه لشروط الوحدة، وخصوصا ذاك الشرط المرتبط بحلّ الأحزاب السياسية في سوريا، وخاصة البعث، بوصف هذا الشرط يشكك في “وحدويّة” هذه الأحزاب وموقفها من الوحدة العربية. إلى جانب التعامل مع الوزراء السوريين في فترة الوحدة بوصفهم أتباعا له لا شركاء.
وينتقد الفرزلي الانقسام العربي حول القضايا المختلفة، والمقاربات الفاشلة لتبرير التدخل الخارجي في المنطقة وكأن “الماضي لا يمضي” بل هو حاضر دوما، ما جعل الأنظمة العربية المعاصرة تنتهي بوصفها دكتاتوريات استخباراتية، تقنّعت باليسار في سبيل الوصول إلى السلطة. وكأن تاريخ العرب يعيد وسيكرر نفسه، وخصوصا مفاهيم المؤامرة التي استخدمتها السلطة وتلك الأحزاب التي تدّعي التقدمية في سبيل تبرير هزائمها.
سليمان الفرزلي يتناول في كتابه الوحدة السورية المصرية، وخصوصا العلاقة المضطربة بين الحزبين اللذين كانا ناشطين بشدة في تلك الفترة بوصفهما ثوريين أو الأكثر ثورية
المفاهيم الأخرى التي يتطرق إليها الفرزلي هي التي أسست لظهور الأحزاب “التقدميّة” في المنطقة، ويشير إلى غموض معنى هذه المفاهيم، كالعروبة و”الإسلام” والقومية بل وحتى الثورة. وينتقد استخدام هذه المفاهيم من قبل الناصرية والبعث وتحويلها إلى وسيلة سياسية، وليس انتماء ثقافيا وفكريا، وخصوصا في الإسلام بشقه السياسي.
فميشال عفلق، مؤسس حزب البعث، حاول التمسك بأهداب الإسلام، في حين أن عبدالناصر في الجوهر قام في حكمه على دعم الإخوان المسلمين. وهذا ما أشار إليه الكاتب مستعرضا علاقة سيد قطب مع حركة الضباط الأحرار، والمبادئ التي وضعها قطب، والتي ترفض مفاهيم الانتماء القومي بوصفها “كفرا” والتركيز على الانتماء الإسلامي، وقمع الجماهير وتسييرها، والوقوف في وجه الفنان و”ميوعته”. ثم يذكر بعدها خيبة أمل قطب وانفكاكه عن هذه الحركة التي كان يحلم بأن يكون من منظريها وثورييها.
ويناقش الكتاب “أزمة الحرب والسلم مع إسرائيل”، وخصوصا المحاولات “الصوتيّة” العربية للقضاء عليها، ثم الواقع المختلف في التعامل معها، الذي وصل حدّ التسليم بوجودها، في تناقض مع الشعارات الرنّانة التي رفعها كل من البعث وعبدالناصر.
كذلك ربط الحرب مع إسرائيل بالحرب الأهلية في الداخل العربي، بوصف الحرب الأهلية هي المصير شبه الحتمي في حال عدم معاداة إسرائيل. فأنظمة القمع العربية، قائمة على أساس بقاء إسرائيل، وهي الحجة التي مازالت إلى الآن تستخدمها الأنظمة القمعية والتنظيمات المسلحة في تبرير وجودها وقمع شعوبها تحت مفهوم “الممانعة”، بوصفه يبرر كل شيء، حتى قتل الشعوب العربية وتهجيرها. وهذا ما نراه في تجربة البعث السوري التي انتهت بتشريد الشعب السوري، بحجة حمايته ومحاربة إسرائيل.
وخلاصة القول إن المؤلف يعود في كتابه هذا إلى تاريخ نشأة حزبي “البعث” و”العربي الديمقراطي الناصري”، مفندا أداءهما وعلاقتهما بالحركات الإسلامية، لعله يجد في الماضي تفسيرا لما يجري راهنا. وهو ما يمنحه اليوم أهمية نظرا إلى الحركات التي يشهدها العالم العربي، خصوصا بعد عودة الإسلام السياسي إلى الواجهة.
إلا أن الفرزلي يختتم بقوله “يبقى بصيص من الأمل وسط هذا الركام وهو أن تقوم في العالم العربي قوى حية تتصدّى للمواجهة مع العدو الحقيقي التاريخي للأمة وداعميه وقوفا صلبا ومتفوقا”. وهذا يعني أنه ربما يأتي الزمن الذي تنتبه فيه الزعامات العربية إلى الخطر الذي يتهددها، وتحدد أهدافها بدقة حتى تصحح مساراتها، وتنسى خلافاتها.