أرض الآلام وجلجلة العالم

لَبِس قفّازيه المنسوجين من قماش أبيض حريري، وفتح العلبة الكارتونية الصفراء بلون زهرة عُبَّاد الشمس، وأخرج منها بأناة، شبيهة بالصلاة، أوراق المقوّى التي يستخدمها الرسّامون، والمطوية مثل ظلفتي شبّاك كتبت على ظاهرهما قصائد بالإنكليزية والإيطالية.
فتح فيديريكو بوزونيرو ظلفتي الورقة المطواة فبرزت الصورة التي ارتبطت بتلك القصيدة، وهي واحدة من 15 قصيدة كتبها الشاعر الإيطالي ستيفانو ڤينتشيري للمُغلّف المعنون بـ«فوق كل صخرة استوت بالأرض» مُرفقا إيّاها مع خمس عشرة صورة من بين مشاهد كتاب «ما تبّقى من الأرض» لبوزونيرو والذي ضمّ في الأصل 79 صورة فريدة.
حين شاهدته يفعل ذلك أدركت بأن فيديريكو بوزونيرو لم يُبالغ في شيء عندما عرض لي مخاض الصورة لديه وميلادها. “أنا أذهب إلى المكان للمرة الأولى دون أن أحمل معي أيّ ما له صلة بالصورة والتصوير. أدور في المكان وأُكثر من التفحّص بتكويناته وبدرجات الضوء فيه، أتشبّع بما ينبع من ذلك المكان من وهج ومشاعر، أبقى فيه وقتا طويلا وأجول في أرجائه لأحدّد الزاوية ومُرتكز مسند الكاميرا والساعة المحدّدة للالتقاط، وأغادر لأعود في اليوم التالي، أو بعد أيام.. إذّاك لا تستغرق منّي الصورة إلاّ الوقت الذي يقتضيه تثبيت العدسة والضغط على زر الالتقاط. والصورة التي تولد من تلك الحركة هي الصورة الوحيدة وستُنشر كما هي دونما رتوش أو تصحيحات”.
وإذا فصوره قطع فريدة، لم ولن تتكرّر، ومهما أعيدت طباعتها فإن ما يخرج عنها إنما هو فريد. “لا ألمس الصورة، لا أُجمّلها ولا أُغيّر فيها”، يقول بوزونيرو ”لذا تختزن الصور دفق اللحظة التي انسابت فيّ المشاعر من ذلك المكان، وبإمكانك أن تتصوّر عمق ومقادير المشاعر التي تضّخها في الإنسان تلك الأرض، فلسطين، بكل ما عنت وتعني بالنسبة للعالم وبكل العذاب والأمل اللذين ينبعان منها”.
هذا ما حدث مع الشاعر ستيفانو ڤينتشيري الذي أبلغني بأنّه شعر بموسيقى وبصمت هذه الصور التي التقطها في عام 2009 في فلسطين. جاءت الصور على أساس اتفاق مع منظمة «اليونيسكو» التي كانت ترغب في توثيق الميراث والحضارة والثقافة والأرض الفلسطينية.

"بعد ذلك"، يقول بوزونيرو ”اتّخذت فلسطين شكلا شبه مستقل عن ذلك المشروع، إذْ شعرت بالواجب في أن المشهد الذي كنت أراه هناك في صورة أكثر ثباتا تجاوز وذهب أبعد من الوثيقة التي كانت منظمة اليونسكو طلبتها منّي".
"هذا الكتاب مصنوع بشكل حرفي ويدوي" يقول بوزونيرو، ”إنّه كتاب فنّان، وهو ثمرة تعاون كثيف بيني والشاعر ستيفانو ڤينتشيري الذي كتب خمس عشرة قصيدة قصيرة كاستجابة لمشاعر اجتاحته إزاء خمس عشرة صورة من بين 79 صورة نشرتها في كتاب سابق لي نُشر بعنوان ‘ما تبقّى من الأرض’“، ويُضيف ”وعلى مدى شهور عديدة، بعد أن شاهد صور ذلك الكتاب، بعث إليّ ستيفانو القصائد تباعا، طالبا منّي ما إذا كنت أتّفق مع فكرة إصدار كتاب مُختلف ومستقل عن الكتاب السابق“.
”بدت كلمات ستيفانو وكأنّها حملت صوري إلى فضاء أبعد ممّا كنت وصلت إليه بنفسي“، يقول فيديريكو بوزونيرو ”وفي الوقت ذاته كان ذلك الفضاء أقرب بكثير إلى ما كنت قد رأيت هناك في تلك الأرض، فلسطين، في عام 2009. ولذا وُلد حوار حميم وصامت ما بين الشاعر والمصوّر“.
”اختار ستيفانو 15 صورة خلقت بدورها تتابعا مغايرا لما كانت عليه، هي ذاتها، في كتاب ‘الأرض التي تبقى’. كنت سعيدا بهذه النتيجة لأنّها عنت بأنّها، أي الصور، تواصلت مع داخل شخص لا يعرف المكان ولم يزُرْ فلسطين أبدا“.
ويصف فيديريكو بوزونيرو تجربة أمسية قراءة ضمّته مع الشاعر ستيفانو ومترجمته إلى الإنكليزية بـ«الفريدة»، ويقول “حين تحاورنا، وكانت معنا المترجمة التي نقلت القصائد إلى الإنكليزيّة، شعرت بفرادة تلك اللحظة، هو، الشاعر، كان يُحدّق في الصور المنعكسة على الجدار، وأنا كنت أستمع إلى قصائده المتتابعة مع الصور العاكسة لمغزى جديد لمشاهد أعرفها بشكل جيّد. أنا أيضا رأيت تلك المشاهد في تلك اللحظة بعين أُخرى”.

ورغم فرادة تلك التجربة واللحظة التي ولّدتها تلك القراءة فإنّ فيديريكو بوزونيرو يُفضّل عدم إقران صوره بالنصوص، ما لم تحافظ تلك النصوص على عذرية صوره ”في العادة أنأى بصورتي عن المقاربات الأدبيّة، بمعنى تآصر الكلمة مع الصورة، لأنّي أعتقد بأن الصورة تسبق الكلمة. الصورة تولد عارية وينبغي أن تُرى كما هي على ما تشكّلت عليه، ثم يؤولها أي كان وفق ما يشاء، ويعيشها وفق ما يشعر بها أو يفك رموزها كما يشاء، أو يضعها في إطار أو حالة، يمكن أن تكون مغايرة عمّا شاهد وشعر به المصوّر. ما هو مهم هو ألاّ تظلّ الصورة منزوعة الفعل، بل أن تكون قادرة على التواصل وإيصال مشاعر وأحاسيس تذهب أبعد من الحالة أو الموضوع اللذين تقدّمهما“.
”هكذا فعلنا مع كتاب ‘ما تبقّى من الأرض’، حيث ابتدأ بالصور وانتهي بها، ولم توضع النصوص إلا في خاتمة الكتاب“.
ويفتتح فيديريكو بوزونيرو كتاب «ما تبقّى من الأرض» بصورة رجل كهل يجلس على قارعة طريق في فلسطين المحتلّة، ”التقيت الرجل الذي تفتتح صورته الكتاب، على الطريق رقم 60 الذي يقطع فلسطين من جنين إلى الخليل. ولمن يستطيع عبوره والمرور فيه، فإنّ الطريق 60 يُعد العمود الفقري لفلسطين. كان الرجل جالسا على قارعة الطريق. سألته ما إذا كان بمقدوري تصويره، فوافق بإيماءة من رأسه. ما أثار دهشتي هو أنّ الرجل كان يحمل معه ساعة حائط وكيسا من القماش الأحمر. قضّيت معه ما يربو على عشر دقائق، لكن عقارب تلك الساعة لم تتحرّك من مكانها. كانت الساعة متوقّفة. وبالنسبة لي فإن الصورة التي تفتتح الكتاب إنّما تُمثّل حال الشعب الفلسطيني: إنّه يترقّب، ما يُمكن أن يحدث، أي حضور مساعدة من الخارج. الرجل يحمل الساعة ذات العقارب المتوقّفة لم يقل لي شيئا. كان يحمل ساعته داخل كيس أحمر من القماش طبع عليه حرفان لاتينيان ( H.O)، اكتشفت في ما بعد من الإنترنت، أن ذلك الشعار يعود لمصنع إسرائيلي لأزياء الرجال. إنّه ضرب من المفارقة: «فلسطيني يجلس على قارعة الطريق رقم 60، برفقة ساعة حائط وُضع في كيس قماشي أحمر يعود إلى شركة إسرائيلية».
ولا تختلف حالة الترقّب في الصورة التي تُغلق كتاب «ما تبقّى من الأرض» ”نعم“، يقول فيديريكو بوزونيرو ”ذات الشيء يحدث في نهاية الكتاب مع صورة السيّدة التي صوّرتها في إحدى القرى. المرأة ساهمة، غارقة في التفكير. ثمة وقار كبير في هيأتها؛ وهو ما دعا الشاعر ستيفانو ڤينتشييري، والعديد ممّن شاهدوها إلى اعتبارها أنموذجا للمرأة المتوسّطيّة: امرأة أمام الباب تجلس حارسة للبيت، وللأرض. إنّها شخصية أموميّة تشبه ما كانت عليه من الزمن الغابر، وهو ما يجعل منها أيقونة، كما يصفها الشاعر“، ويُشدّد بوزونيرو ”هذه المرأة أيضا، مثل الرجل في مُفتتح الكتاب، تجلس أمام بيت في قرية اسمها «النُعمان»، التي اقتلع الجيش الإسرئيلي منها اسمها، وأطلق عليها اسم «ميسموكين». أنا كنت أحمل معي خرائط الأمم المتّحدة، فقد كنت هناك بتكليف من اليونسكو، وعثرت في تلكم الخرائط على اسم «النعمان»، ووضعت اسم «النعمان» في هامش الصفحة التي تحمل صورة السيّدة“.
كان الشعر والصورة الفوتوغرافية مستقلّين عن بعضهما، لكنهما اشتركا في كثير ممّا يربط بينهما. إنّهما وسيلة وشكل لتجاوز الواقع ولتجاوز ما تشاهد العيون في كلّ يوم. وليست مصادفة أن آرثر رامبو قال إن «الشاعر يتبصّر، وهو الذي يرى..» وهو بذلك، بالضبط كما المصوّر الفوتوغرافي، إذا ما كان يُدرك بوعيه ما يلتقط في تلك اللحظة. يولد التواصل ما بين الكلمة والصورة.
، ما بين الرؤية وما يدور في الخلَد. ويُذكّرني هذا بردّ المصوّر المكسيكي مانويل آلفاريس برافو على من سألوه عن ماهيّة الصورة الفوتوغرافيّة؛ قال برافو «بإمكان الصورة أن تكون لحظة واقعيّة أو لا، أي أن تكون لحظة مُوَلَّدة ». وهذا بالضبط هو ما حدث خلال الحوار ما بين الشاعر والمصوّر. فبالإمكان أن تكون الصورة لحظة واقعية، وهي كذلك بالفعل، أو أن تكون لحظة مُتخيّلة، معيشة، تتجاوز الواقع نفسه، وهي إذا، إذّاك لحظة مُوَلَّدة، سواء من قبل الشاعر أو من قبل المصوّر».
خالدة في عذابها المرير
ستيفانو قينتشيري
صادفني، وأنا أجلس على أريكتي أن أُشغّل التلفزيون وأُشاهد فيلما كان عرضه قد ابتدأ من ذي قبل، فوجدت نفسي وسط تلال بنّية التراب، مليئة بالحصى: ”لقد سبق لي أنْ شاهدت هذه الصورة!“، فكّرت.
أجل بالتأكيد. كانت لقطات الفيلم شبيهة بالصور التي التقطها فيديريكو بوزونيرو، التي كنت قد شاهدتها قبل ذلك بوقت قصير. كان الاختلاف بين الصورتين يكمن في عجالة المادة المصوّرة سينمائيا، وفي تصريحات المتحدّثين وفي إيماءات الشخوص الظاهرة في الفيلم.
صور بوزونيرو شأن آخر: إنّها لا نهائية، خالدة في عذابها المرير، وبدت لي كما لو أنّها تسمّرت بصرخة مكتومة.
إنّها الأرض التي يرشح منها ضياعها، آلامها الجسديّة وعذابات روحها. هذه الأرض، ويمكن أن تكون أي بقعة من هذا الكوكب، متباينة الألوان والتكوّن الجغرافي، تواجه عذاباتها بصمت. فيديريكو بوزونيرو ثبّت من هذه الأرض تلك الانفعالات، وأنا لم أفعل إلاّ أن ألملم تلك الانفعالات وأجعلها كانفعالاتي.
فلسطين البعيدة
فيديريكو بوزونيرو
أتسلّم مشاهدي ممّا هو موجود بالفعل، أو ممّا تواجد هناك: ويتلخّص واجبي في أن أُحوّل تلك المشاهد إلى صور فوتوغرافية قابلة للبقاء معنا.
مشاهد أنآى عنها، لكن دون أن أهجرها أبدا، زمن قبالة أي زمن آخر. ستيفانو ڤينتشيري، شاعر ومتنبئ: يصدح صوت قصائده في صوري الفوتوغرافية، يُوسّع مديات تلك الصور وتحلّق بها بعيدا.
ليس الشعر والصورة الفوتوغرافية أبدا مجرّد مصادفات؛ على العكس تماما، فهما عبارة عن تنام لأوضاع سالفة، وبحث عن رسالات جديدة تقول الحقيقة.
فلسطين التي زرتها بين عامي 2008 و2009، بقيت بعيدة المنال، وبها طعنة من ثبات الزمان؛، وإذ كنت أدنو ممّا انغلق في كنهها من حاضر متناقض وماضٍ مطالب، شعرت بنفسي كما لو كنت تطفّلا: أماكن تختزن في داخلها كلّ ثقل الماضي، أماكن عديدة للذكرى، حوفظ عليها أو انسلّت من بين الأصابع، أماكن تنطق بالآلام وبالكرامة الإنسانية.
تتواصل وتكتمل الرحلة المتوحّدة للشاعر والمصوّر في فسحة الصمت ما بين الصورة والكلمة.
ثلاث مقطوعات
من قصائد الشاعر ستيفانو ڤينتشيري
ظهري إلى الجدار،
ظهري إلى باب البيت، المغلق.
وشمي ينطق الآن عن حاضري
لكنّه ليس إلا تاريخا من رمل وريح
أحيا وأموت
برعشة للفينيق، أيقونة.
***
أحمر لا نهائي هو ذلك إلهي
ليس غير نقطة،
ما بين نهايات الأعمدة
لكن ثمة على كل صخرة استكانت هناك
حصى جُبّلت بدموع وأفراح.
***
وقفة استراحة واحدة
في الميدان
الذي فرغ فجأة من جميع الأصوات
كما لو الضياء
امتصّها على حين غرّة.