أرديرن والنّص

رئيسة الوزراء النيوزيلندية لم تخرج عن النص الأخلاقي الذي يقدمه الغرب عن نفسه، ولم تتصرف إلا من داخله. سوى أن هذا الغرب، بأفعاله نفسها يقدم واقعا مختلفا، خارج النص، ويناقضه على طول الخط.
الثلاثاء 2019/04/02
أرديرن وضعت تاريخا بأسره أمام المساءلة

لم تخرج رئيسة الوزراء النيوزيلندية جاسيندا أرديرن عن النص الأخلاقي الذي يقدمه الغرب عن نفسه، ولم تتصرف إلا من داخله. سوى أن هذا الغرب، بأفعاله نفسها يقدم واقعا مختلفا، خارج النص، ويناقضه على طول الخط.

لهذا السبب وحده، فإن أرديرن مشكلة حقيقية لكل الذين يمارسون السياسة كمفارقة دائمة بين القول والفعل. ولا بد أنها أثارت الكثير من غضب الذين يؤمنون بتفوق العرق الأبيض. وثمة ما يبرر الخشية على حياتها. ليس لأنها قدمت نموذجا لم يسبق له مثيل في إدارة الأزمات. وليس لأنها كسبت محبة واحتراما لم يكسبهما مسؤول غربي، ولكن لأنها فعلت ما يستوجبه النص المهجور عندما يتعلق الأمر بحقوق الإنسان والقبول بالآخر.

تحولت جاسيندا أرديرن إلى أيقونة عالمية بطريقة تكاد تكون عاصفة، وذلك بحجم الصدمة التي أثارتها المجزرة التي ارتكبها ذلك العنصري في بلدة كرايست تشيرش.

ولم تعد نيوزيلندا بلدا نائيا. المسافة لم تتغير حيال أي نقطة في العالم، إلا أنها تقلصت حتى لكأن الجغرافيا سقطت من الحساب.

لا سبيل لإحصاء كل ما فعلته، ليس تعاطفا مع أسر الضحايا فحسب، وإنما أيضا من أجل الدفاع عن قيم التضامن والشراكة والأخوة والمساواة والمواطنة والصواب الأخلاقي، أي كل ما دأبنا على أن نسمعه عن الغرب، من دون أن نراه.

حتى أنه لم يعد من الممكن مقارنتها بأي مسؤول غربي عرفناه منذ الحرب العالمية الأولى إلى اليوم.

وضعت أرديرن تاريخا بأسره أمام المساءلة، لتقف بمفردها لتمثل “النص المقروء”، ولكن غير المنظور في الأخلاقيات الديمقراطية الغربية.

حسن الحظ أبعد نيوزيلندا عن أن تكون قوة غزو أو تنافس شرس على المصالح. وهو تنافس ظل كافيا لكي يشوه “النص” ويعرّيه ويقدمه كخدعة من مخادعات ثقافة تريد أن تحتل “الضفة الأخلاقية العليا”، بينما لا تحتل السياسة الواقعية إلا أوطأ وأحط المسالك.

حسن حظ أهم، جعل الرأسمالية النيوزيلندية، رأسمالية رفاه وكفاية ذاتية الصنع، من دون أن تتحول إلى قوة توسع وهيمنة، حتى لكأنها جاءت من عالم مثاليات آخر، لا صلة له بعالم الآخرين.

حتى العنصري الذي ارتكب تلك الجريمة، كان بحاجة فيما يبدو إلى أن يزور إسرائيل وتركيا لكي يتشوه. أو أن “يستورد” ثقافته من “الغرب” الحقيقي الأصدق تناسبا مع ليبراليته وحاجته المتوحشة لاختلاق الصراعات وثقافة التصادم مع الآخر.

لقد بدت هذه الشابة التي ولدت في العام 1980، قائدا عالميا مخضرما، في استيعاب كل أوجه الثقافة التي دأب الغرب على تصديرها، أو بالأحرى تصدير الزعم أنه يمثلها، ابتداء من احترام حقوق الإنسان، مرورا بقيم دولة القانون، ووصولا إلى التعايش والاستيعاب والتسامح.

ولكننا لم نر من كلام الغرب عن نفسه إلا ما نعرفه، ابتداء من عهود الاستعمار التي خلفت بمفردها ملايين الضحايا، إلى احتلال فلسطين، وصولا إلى غزو العراق، بكل ما انطوت وما تزال تنطوي عليه من جرائم وانتهاكات.

ومثلما “وهب من لا يملك، لمن لا يستحق”، فقد عاد آخر ممثلي “دولة القانون” المزعومة ليتبرع من جيبه الخاص بالجولان كهدية “عيد ميلاد” انتخابية إلى صديقه بنيامين نتنياهو، مُسقطا كل قيم القانون التي يعرفها العالم.

الغرب الحقيقي هو هذا بالضبط. وهو نفسه غرب وعد بلفور. وهو ذاته غرب المجازر الوحشية التي ارتكبها الاستعمار الفرنسي في الجزائر، وعجز حتى عن الاعتذار عنها. وهو نفسه غرب سجن أبوغريب، وأعمال القتل اليومية التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية. فدع عنك ما يقوله عن نفسه، لأنه مجرد هراء عالم مريض بالاحتكار والهيمنة والتوسع.

عندما وقعت مجزرة كرايست تشيرش اندفعت أرديرن إلى مكان الجريمة، والتقت بأسر الضحايا، وارتدت السواد حدادا، واحتضنت أفرادا من تلك الأسر، وألقت كلمة، بمشاعر ملتهبة، أكدت تمسك حكومتها وكل النيوزيلنديين بقيم التعايش ونبذ العنصرية، ووضعت غطاءً على رأسها، حتى أن مقدمات البرامج التلفزيونية أنفسهن ارتدين “الحجاب” أيضا، تعبيرا عن الاحترام.

وأصدرت الحكومة قانونا جديدا يمنع حيازة الأسلحة الآلية ونصف الآلية، وقررت سحبها. ومنعت إشهار اسم مرتكب الجريمة، وقالت إنه سيواجه كل قوة القانون. وكانت أول زعيم غربي يخاطب برلمان بلاده بـ”السلام عليكم”. وشاركت في أول جمعة لتأبين الضحايا، وقررت بث أذان تلك الجمعة عبر كل وسائل الإعلام. وأخيرا، أعلنت 29 مارس يوم تأبين وطني لإحياء ذكرى الضحايا.

لم يكن مطلوبا منها كل ذلك. وكان بوسعها أن تكتفي بالقليل منه. إلا أن النص الأخلاقي ظل بمثابة دافع يحثها على تحويل ثقافة المساواة إلى قوة حاكمة وفاعلة، في الساعة ذاتها التي بدا أنها تتعرض لتهديد خطير.

لمرة واحدة في كل التاريخ الذي نعرفه، ونعيش انتهاكاته، ظهر زعيم غربي، لا يقول قولا آخر، ولا يفعل إلا ما يُطابقه، ولا يقدم تبريرا للجريمة، ولا تفسيرا لها سوى أنها “إرهاب” مماثل لكل إرهاب آخر.

جاسيندا ارديرن، اسم لن ينساه أحد، في بلد لم يعد نائيا عن قلوب كل ضحايا التمييز والعنصرية وعنف المصالح. وثمة الكثير مما يبرر الخوف على حياتها لأنها الوحيدة، من بين كل السياسيين الغربيين، التي تتصرف داخل النص الأخلاقي للثقافة الغربية الذي لم يعد يمثله أحد.

9