أردوغان يوائم غريزة البقاء لديه مع مخاوف تركيا القومية

إسطنبول - لا يزال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يجد الوقت بطريقة أو بأخرى لمواصلة نشاطاته العسكرية الطموحة في بعض أشد مناطق الصراع ضراوة في العالم رغم المشكلات المالية الداخلية والعلاقات المتوترة مع الحلفاء الغربيين.
ويوجد الجيش التركي حاليا في 12 دولة على الأقل، ويحتفظ بقواعد في الصومال وقطر وينخرط بشكل مباشر في صراعات حية بكل من سوريا وليبيا. وستنشر أنقرة قريبا قوة حفظ سلام في منطقة ناغورني قرة باغ المتنازع عليها في جنوب القوقاز.
وتحرس البحرية التركية في أماكن أخرى عمليات التنقيب عن النفط والغاز المثيرة للجدل في شرق البحر المتوسط، رغم الاحتجاجات المدوية من جانب الاتحاد الأوروبي وخطر الاشتباكات مع القوات اليونانية والقبرصية والفرنسية في المنطقة.
ويأتي كل هذا في أعقاب محاولة انقلابية فاشلة عام 2016 شهدت استبعاد الآلاف من الجنود ذوي الخبرة من الجيش.
فلماذا إذن يحرص أردوغان الآن على المغامرات العسكرية؟ يكمن جزء من الإجابة في تجدد القومية التركية، وهي ورقة رابحة يقول محللون إن أردوغان تعلم خلال 17 عاما قضاها في السلطة كيف يستخدمها لمصلحته السياسية الداخلية.
ويقول سونر جاجابتاي، مدير برنامج الأبحاث التركية في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، "لم يبدأ أردوغان الحروب المنخرط فيها حاليا، لكنه يوائم غريزة البقاء لديه مع مخاوف تركيا الأمنية القومية الأوسع نطاقا".
ويضيف "إن العديد من الأتراك معجبون للغاية حاليا بهذه السياسة الخارجية الجديدة القوية والتي تسمح لأنقرة بالوصول إلى ما وراء حدودها". ومع ذلك، وبالرغم من كل مواقفه الخارجية المشاكسة، فإن قوة أردوغان تتوازن على قاعدة دعم محلية تعاني حاليا من فقدان الوظائف وتراجع القوة الشرائية لليرة وارتفاع التضخم.
ويرى محللون أن هذا الاعتماد على الاستقرار الاقتصادي هو نقطة ضعف أردوغان، على الأقل في عام سيطرت عليه جائحة عالمية مدمرة وما لها من تداعيات اقتصادية.
ويعاني الاقتصاد التركي من أزمة حادة، حيث انخفضت الليرة التركية أكثر من 30 في المئة من قيمتها مقابل الدولار منذ بداية عام 2020، وسط توقعات باستمرار الانهيار في 2021 وفق تقارير إعلامية.
ويقول الخبير الاقتصادي سيف الدين جروسل إن تركيا ربما لا تواجه انهيارا اقتصاديا كاملا حتى الآن، لكنها ربما تعاني من انخفاض النمو وارتفاع البطالة لبعض الوقت مستقبلا.
وبجانب الهشاشة الاقتصادية، ثمة تهديد رئيسي آخر لمغامرات أردوغان العسكرية وهو اعتماد تركيا على أسلحة صنعتها الولايات المتحدة وألمانيا، حليفتا أنقرة الغربيتين التقليديتين.
وقال مصدر دفاعي إن "سرب القوات الجوية القتالي التركي بأكمله إما من صنع الولايات المتحدة وإما يطير بقطع إمداد أميركية. وفي الوقت نفسه ، فإن أكثر من نصف سلاح الدبابات ونصف الأسطول القتالي للبحرية من صنع الولايات المتحدة، والباقي مصدره ألمانيا".
وغالبا ما يحث أردوغان الشركات المحلية على المساعدة في تعزيز الاستثمارات الدفاعية، رغم أن تلك الجهود غالبا ما تقوضها مكونات أجنبية في شركات الأسلحة المحلية، حسبما يقول جان كساب أوغلو، مدير برنامج الدفاع والأمن في مركز الدراسات الاقتصادية والسياسة الخارجية (إدام)، ومقره إسطنبول.
ومع استمرار توتر العلاقات مع الغرب بسبب تدخل تركيا في العديد من مجالات الصراع، تركز البلاد على تطوير معداتها الدفاعية الخاصة، وأبرزها الطائرات دون طيار الحديثة "تي.بي.2".
ويقول كساب أوغلو "إن تعميم استخدام الطائرات دون طيار في الجيش التركي يعد عامل تمكين أساسيا للنشاط العابر للحدود، فهذه الأنظمة فعالة من حيث التكلفة وتحد من الخسائر البشرية وأسعارها معقولة، فضلا عن كونها توفر أصولا جيدة للتصدير".
وأكد الخبير الدفاعي هاكان كيليتش أن الطائرات التركية دون طيار من طراز "بيرقدار تي.بي.2" جذبت الانتباه العالمي هذا العام لحملاتها الناجحة في سوريا وليبيا وناغورني قرة باغ.
ويقدر كيليتش أن تكلفة الطائرة الواحدة من طراز "تي.بي.2" التي تستطيع التحليق لمدة 27 ساعة، هي نحو سبعة ملايين دولار. وهي أرخص بعشر مرات من المقاتلة الحديثة "أف – 16" التي يمكنها التحليق في الجو لمدة ثلاث ساعات فقط.
ورغم أن العقوبات الأميركية الأخيرة بموجب "قانون مكافحة أعداء أميركا من خلال العقوبات" لعام 2017 ردا على شراء تركيا أنظمة الدفاع الجوي الروسية "أس - 400"، تعتبر خفيفة نسبيا، فإنها ما زالت هي الأسوأ بالنسبة لطموحات أردوغان العسكرية.
ويقول كساب أوغلو إن تلك العقوبات الأميركية قد تضر بالقوة الشرائية لتركيا في مجال الدفاع.
ووجهت الولايات المتحدة بالفعل صفعة لقدرات البلاد القتالية الجوية المستقبلية، حيث علقت مشاركة أنقرة في برنامج الإنتاج المشترك لمقاتلات "أف - 35"، وهي خطوة يقول كيليتش إنها ستكلف 10 متعاقدين أتراك حوالي 12 مليار دولار. لكن هناك بصيص أمل يلوح في الأفق بالنسبة لمغامرات أردوغان العسكرية، يتمثل في الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن، الذي من المرجح أن يدعم تركيا في سوريا وليبيا بينما يشجع جهود السلام في جنوب القوقاز.
ويقول المحلل جاجابتاي المقيم في الولايات المتحدة "أعتقد أن الجيش الأميركي يريد حقيقة من تركيا منع وقوع هذه الدول تحت السيطرة الروسية في الغالب".
ويضيف أنه بالمثل، فإن "علاقة أردوغان المستدامة" مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، توفر له مجالا للمناورة في مناطق الصراع الرئيسية، رغم تحذير من أن الاعتماد على روسيا قد يكون بمثابة عائق على المدى المتوسط.
وقد تعني هذه الرؤية المستقبلية الماكرة، إلى جانب تحول في القيادة الأميركية العالمية، أن أردوغان في وضع يسمح له بمواصلة مغامراته العسكرية لبعض الوقت في المستقبل.