أحمد عبدالناصر شريف قزم مصري يهزم تنمّر المجتمع

شريف يبدو اليوم كنموذج لكل قزم في مصر يطمح إلى التفوق، وأصبح الفتى ضئيل الحجم، كبير الطموح، دليلا على أن الفرد صاحب الإرادة أقوى من تراث الاستعلاء السائد لدى البعض.
السبت 2021/01/09
بطل الجمهورية الذي ينتصر بإرادته

كشف المفكر سعيد المصري في كتابه القيّم “تراث الاستعلاء”، أن هناك أنماطا أربعة للتمييز الثقافي في مجتمعاتنا العربية، هي: المتعمّد، ثم الخفيّ أو غير المباشر، ثم القائم على التنميط الإحصائي، وأخيرا الذي يعتمد على ممارسات الثقافة في الحياة اليومية.

والتنمّر تمييز مُجتمعي بغيض. قد يُحبط الأنفس ويخنق الآمال ويُجرجر المُجتمعات إلى هوة التخلف والتفسخ واللاعدل. وليس هناك من قوة تقهره أفضل من الإرادة والعزيمة والقدرة على مواجهة الصعاب والتحديات.

يعدّ الأقزام في كثير من المجتمعات العربية من أبرز الفئات التي تواجه تنمّرا وتمييزا متنوعا، يدور بين الأنماط الأربعة السابقة، ما يجعل أي كسر لظاهرة التنمّر التي يواجهونها أمرا لافتا ومُهما، وباعثا لروح التحدي اللازمة لقهر ظواهر المجتمع السلبية.

بدا الشاب المصري صاحب الأعوام السبعة عشر، أحمد عبدالناصر شريف، مُثيرا للاهتمام والانتباه، حيث رفض تنمّر المجتمع تجاهه لكونه قزما، وتمكّن بقدرته الفائقة من الردّ على التنمّر بشكل عملي من خلال تفوقه الرياضي، وحصوله على بطولة جمهورية مصر لألعاب القوى، وفوزه بميداليتين ذهبيتين، ليبدأ بعد ذلك طريقه نحو المزيد من التفوق، ما جعله حديث الكثيرين بمصر على مواقع التواصل الاجتماعي خلال الأيام الأخيرة.

الطريق إلى التفوق

فيلم " الأقزام قادمون " الذي لعب بطولته يحيي الفخراني وليلى علوي، وأخرجه شريف عرفة، يستولي فيه رجل أعمال على أرض تخص مجموعة أقزام، فيقرر البطل الفخراني مساعدتهم لاسترداد أرضهم، هو العمل الوحيد الذي أنصفهم
فيلم " الأقزام قادمون " الذي لعب بطولته يحيي الفخراني وليلى علوي، وأخرجه شريف عرفة، يستولي فيه رجل أعمال على أرض تخص مجموعة أقزام، فيقرر البطل الفخراني مساعدتهم لاسترداد أرضهم، هو العمل الوحيد الذي أنصفهم

كانت كافة أشكال التمييز المجتمعية واضحة أمام الشاب القادم من قرية صغيرة، لا يكاد يعرفها أحد تُدعى “شباس الشُهداء”، بمركز دسوق بمحافظة كفر الشيخ، شمال القاهرة، وكان واعيا لما سيواجهه من تنمّر وتمييز، وعلى قناعة بأنه صلب، ولم يكن غريبا أن يكرر في حوارات إعلامية أنه بدأ الطريق نحو العالمية، وأي شيء مهما كان لن يُثنيه عن التفوق الرياضي.

رأى مبكرا أن نظرات الازدراء به والاستهانة تدفعه إلى التفوق وليس الإحباط، وأدرك أن البعض من حوله يستكثرون على شخص غير مكتمل النموّ السطوع والتميز، تحت اعتقاد بأن التميز في الرياضي بحاجة إلى جسد مكتمل.

حلم منذ صغره بنجومية لاعب كُرة محترف يُجيد مهارات عِدّة، مؤمنا بأن التميز في كرة القدم قلب حيوات الكثير، وغيّر واقع أناس نشأوا في عائلات فقيرة ومنسية اجتماعيا، شاء القدر لها أن تنغرس في عمق الريف.

لكن قصر قامة الولد الصغير المتميز في كرة القدم عن أقرانه جعله دائما محل استبعاد من المدربين الذين كانوا يعتقدون أن قصره يُقلل من مهاراته.

لم يستسلم لتلك النظرة المحدودة المتعجلة، ولم يستجب لضغوط المجتمع من حوله ويقبل بالتخلي عن حلم حياته، فأصر على مواصلة التدريب والمشاركة في مباريات مع الكبار، ثم التقدم إلى كل مسابقة لاختيار لاعبين جدد، مظهرا براعته ومهارته في المحاورة بالكرة.

مرة وراء أخرى ذاعت شهرته، وأدرك من حوله حقيقة موهبته وتنوع قدراته وصار محل اهتمام مسؤولي الرياضة في النادي الرياضي الحكومي الموجود في بلدته الصغيرة. وصار له مشجعون كثر شاهدوا موهبته وتابعوها عن كثب وسعوا إلى استثمارها وتوظيفها لتحقيق حلم حياته، وكان على رأس هؤلاء والدته الحنون التي كانت تدعوه دوما إلى تجاهل الإحباط الذي يواجهه، وتدعمه وتشجّعه وتحفزه للاستمرار في اللعب والسعي الدائم إلى تحقيق هدفه.

الأقزام يعدّون في كثير من المجتمعات العربية من بين أبرز الفئات التي تواجه تنمّرا وتمييزا مختلفا، ما يجعل أي كسر لظاهرة التنمّر التي يواجهونها أمرا لافتا ومُهما، وباعثا لروح التحدي اللازمة لقهر ظواهر المجتمع السلبية

دون ترتيب سنحت له الفرصة عندما علم بقيام ناد إقليمي صغير، هو نادي أوسيم بمحافظة الجيزة، في جنوب القاهرة، بتكوين فريق كرة قدم جديد مخصص لقصار القامة فقط. تقدم بالفعل للاختبار، ولم يلبث أن لفت انتباه مسؤولي النادي، وتم قبوله بالفريق، ونصحه بعض مدربيه بممارسة ألعاب رياضية أخرى إلى جانب كرة القدم ليحافظ على لياقته، وبالفعل مارس الحالم الصغير ألعابا فردية ضمن ألعاب القوى، مثل رياضة العدو لمسافة مئة متر، ورمي الرمح، وغيرهما من الألعاب التي لم يسبق له ممارستها.

كان الرياضيون حوله يدركون أن منتخب كرة القدم لقصار القامة غير رسمي، ولن يستمر كثيرا، ما يعني أنه لن يحقق حلمه بالتميز والتفوق، ما يلزمه بتنويع ألعابه وممارسة ألعاب أخرى، لذا شجعوه على التدريب.

في أول بطولة تم تنظيمها للعدو شارك أحمد بتشجيع مدربيه، وبالفعل فاز ببطولة الجمهورية، وحصل على ميدالية ذهبية، ثم شارك في بطولة أخرى لرمي الرمح لم يلبث أن فاز فيها أيضا بميدالية ذهبية، ليشعر أنه قادر على تخطي كافة العقبات وعبور حواجز الاستبعاد لكونه غير مكتمل النمو.

صناعة المستقبل

الرياضيون حوله يدركون أن منتخب كرة القدم لقصار القامة غير رسمي، ولن يستمر كثيرا، ما يعني أن شريف لن يحقق حلمه بالتميز والتفوق، ما يلزمه بتنويع ألعابه وممارسة ألعاب أخرى، لذا شجعوه على التدريب
الرياضيون حوله يدركون أن منتخب كرة القدم لقصار القامة غير رسمي، ولن يستمر كثيرا، ما يعني أن شريف لن يحقق حلمه بالتميز والتفوق، ما يلزمه بتنويع ألعابه وممارسة ألعاب أخرى، لذا شجعوه على التدريب

في لقاء مع إحدى الفضائيات، قال القزم الرياضي المتميز، إنه يُدرك أن الإنسان بإمكانه أن يصنع مستقبله ويحقق النجاح إذا أراد ذلك، حيث تعلم ذلك من سير وحكايات أبطال العالم في مختلف مجالات الرياضة. وكان قد اطلع على قصص شخصيات قوية وبارزة وناجحة استطاعت تغيير الواقع السيء من حولها، وتغلبت على نظرة المجتمع السلبية تجاهها، ما منحه دافعا لقبول التحدي ومواجهته والانتصار عليه.

كل إنجاز حققه يدفعه إلى التطلع إلى ما هو أبعد منه، وأثبت ذاته في بطولة الجمهورية الأولى لألعاب القوى في السباق، واندفع بعد ذلك إلى المشاركة في البطولة التالية والخاصة بلعبة رمي الرمح لأطول مسافات ممكنة، ثم تطلع إلى أبعد من ذلك عبر تسجيل اسمه للمشاركة في بطولات عالمية تخص أصحاب الإعاقة، وينتصر بالفعل في أول بطولة دولية ليُمثل بلده فيها.

قد تولد الأحلام صغيرة بحجم ما هو متاح من واقع مُحيط، ثُم تتسع وتكبر كلما تحقق منها حلم، فتبدو مبهرة لأصحابها وكأنها كانت ضروبا من المستحيل بالنسبة إلى بداياتهم. وهكذا تمضي الحياة بالحالمين الصغار عموما.

ظاهرة التقزم ترتبط بشكل كبير بالفقر وسوء التغذية، وقد أشارت إحصائية عالمية عن الأقزام إلى وجود أكثر من 150 مليون شخص مصاب بالتقزم، مع ذلك فالمجتمعات ضعيفة الوعي، منحدرة التعليم، شحيحة الثقافة تُحمّل الأقزام أنفسهم مسؤولية تقزمهم.

إن ما دفع الكثير من الناس إلى الاهتمام بحكاية الشاب البسيط الذي يتجاوز طوله المئة سنتيمتر بقليل، هو أن الصورة الذهنية السائدة عن الأقزام تستصغرهم وتراهم شخوصا ناقصين. فالغالبية من أفراد المجتمع اعتادوا النظر إلى الأقزام عموما بصورة دونية نصفها سخرية، ونصفها الآخر شفقة.

 وترتبط ظاهرة التقزم بشكل كبير بالفقر وسوء التغذية، وشيوعها في بلدان العالم النامي وبعض الدول العربية، وأشارت إحصائية عالمية عن الأقزام إلى وجود أكثر من 150 مليون شخص مصاب بالتقزم، مع ذلك فالمجتمعات ضعيفة الوعي، منحدرة التعليم، شحيحة الثقافة تُحمّل الأقزام أنفسهم مسؤولية تقزمهم، وتنظر إليهم نظرة شديدة الدونية.

غالبا لا تهتم الكثير من التشريعات الخاصة بالمعاقين في الدول العربية بإدراج الأقزام ضمن فئة المعاقين، وهو اتجاه بدأ يلقى رواجا واهتماما مؤخرا. ويسود لدى البعض اعتقاد جازم بأن هؤلاء شخوص سيّئو المزاج، وأكثر عصبية، وخارجون عن الطبيعة المعتادة، وثمة مَن يرونهم شؤما.

ولا يرحب الكثير من أصحاب الأعمال بتشغيل الأقزام، اعتقادا منهم بضعف همتهم أو قلة الذكاء، مقارنة بغيرهم من البشر. ومستبعد طبقا لدراسات اجتماعية أن تقبل فتاة طبيعية الزواج بأيّ منهم، ما جعلهم يتزوجون من بعضهم البعض. ويتعرضون للسخرية خلال تعاملاتهم اليومية مع المجتمع، فيطلق البعض عليهم مسميات مُهينة ومسيئة.

حلم مؤجل

حصول شريف على بطولة جمهورية مصر لألعاب القوى، وفوزه بميداليتين ذهبيتين، ليبدأ بعد ذلك طريقه نحو المزيد من التفوق، يجعلانه حديث الكثيرين على مواقع التواصل الاجتماعي بمصر خلال الأيام الأخيرة.
حصول شريف على بطولة جمهورية مصر لألعاب القوى، وفوزه بميداليتين ذهبيتين، ليبدأ بعد ذلك طريقه نحو المزيد من التفوق، يجعلانه حديث الكثيرين على مواقع التواصل الاجتماعي بمصر خلال الأيام الأخيرة

يدخل في نطاق النظرة الدونية المُوجهة نحو الأقزام، حرص السينما والدراما في مصر دوما على إظهارهم بشكل كوميدي أقرب إلى السخرية، فلا يتم تقديم أي منهم باعتباره طبيبا أو مهندسا أو أي مهنة مقبولة اجتماعيا، وإنما في الغالب يظهرون كأشخاص غير متعلمين أو مشرّدين.

وفي فيلم “الأقزام قادمون” إنتاج 1986، بطولة يحيى الفخراني وليلى علوي، وإخراج شريف عرفة، يستولي رجل أعمال على أرض تخص مجموعة أقزام، ويقرر بطل الفيلم مساعدتهم لاسترداد أرضهم، وهو العمل الوحيد الذي أنصفهم، وحمل قدرا من الشفقة عليهم كفئة ضعيفة تحتاج إلى مساعدة. فحتى الفلكلور الشعبي المتوارث كرّس فكرة إلصاق تهمة توقف نمو الأقزام بهم، فشاعت أمثال شعبية مُهينة لهم من عينة “الطول هيبة، والقُصر خيبة”، و”الطول عز”، و”الطول فخر ولو من خشب، والقصر عار ولو من ذهب”، إلى جانب شيوع حكم ومواعظ مستغربة مثل “اتق شر كل من اقترب من الأرض”.

يتحدث شريف كثيرا، عن حلم حياته بأن يُصبح مدربا كبيرا لأحد أندية كرة القدم في مصر، ولديه ثقة في أن الأمر قابل للتحقق، رغم أن أحدا لم ير قزما يتعيّن مديرا فنيا لأي من أندية الكرة المعروفة، ومع ذلك يدرك أن عدم وجود أمثلة سابقة لا يعني أبدا استحالة الوصول لما يتمناه، لأن عناية الله قد تدخره ليكون هو المثال الممكن.

شريف يتحدث كثيرا، عن حلم حياته بأن يُصبح مدربا كبيرا لأحد أندية كرة القدم في مصر، ولديه ثقة في أن الأمر قابل للتحقق

ويُصر الفتى المصري على ضرورة الالتحاق بكلية التربية الرياضية، ويطالب بتجاوز اشتراطات القبول بها والتي تتضمن أن يكون طول الطالب طبيعيا ومناسبا في قوامه العام. ويرى أنه استطاع تحقيق التفوق الرياضي رغم أن كافة التصورات السابقة كانت تستبعد ذلك، وقبول طالب ما في كلية يرغب فيها لا يجب أن يعتمد على اشتراطات شكلية، إنما على مجموع بعينه، لذا فإنه يُرسل عبر وسائل الإعلام وصفحات التواصل الاجتماعي مناشدات للمسؤولين عن كليات التربية الرياضية لقبوله حال نجاحه في امتحانات نهاية العام، وهو على ثقة من أن طلبه سيُقبل.

صار شريف نموذجا لكل قزم في مصر يطمح إلى التفوق، وأصبح الفتى ضئيل الحجم، كبير الطموح، دليلا على أن الفرد صاحب الإرادة أقوى من تراث الاستعلاء السائد لدى البعض.

يُمكن لكثير من ضحايا التنمّر تجاوز السياجات البشعة التي وجدوا أنفسهم فيها، ليس فقط بالرياضة والتفوق، وإنما يُكسر ذلك بتفوق إبداعي وعلمي وفكري، فالإنسان القوي لا تحبطه نظرة ازدراء أو ظلم مجتمعي أو فردي.

12