أحمد الكبيري: كل أعمالي الروائية مستوحاة من حكايات حقيقية

يعد الواقع مادة ثريّة ينهل منها الكتّاب العرب مواد لقصصهم وأعمالهم الروائية، فكثيرا ما يصير الواقع أكثر فانتازية من الخيال وفي أحيان أخرى أكثر أهمية، ومن ثم صار التخييل الروائي لحكايات من رحِم الواقع جزءا لا يتجزأ من أعمال روائية عدة. “العرب” حاورت الروائي المغربي أحمد الكبيري حول أحدث رواياته وعوالم كتابته الروائية المستمدة من الواقع.
"كلاي" هو عنوان الرواية الصادرة مطلع هذا العام للروائي المغربي أحمد الكبيري، والتي يقول عنها إنه يحاول من خلالها فهم طبيعة التحول الذي يشهده المجتمع المغربي في ظل تراكم الخيبات والإحباطات، من خلال مسيرة الشخصية الرئيسية في الرواية “كلاي” الذي يمتلك طاقات هائلة كان من الممكن توجيهها لما يعود بالنفع عليه وعلى مجتمعه، إلا أنها تحوّلت إلى طاقة مدمّرة للذات والمجتمع ككل.
جاءت فكرة الرواية، وفق الكبيري، من جريمة قتل واغتصاب لفتاة صغيرة في ربيعها الرابع من قبل شاب عاش حياة ممزقة بين المغرب وبلاد المهجر، في مدينة جبلية صغيرة ومهمشة، فروّعت ساكنيها. ارتكز الكاتب على الواقعة للبحث في هذا النوع من الجرائم من حيث مسار حياة مرتكبيها، على مستوى الظروف الاجتماعية والاقتصادية والقانونية والثقافية والنفسية.
ثلاثية روائية
“مصابيح مطفأة” و”مقابر مشتعلة” و”أرصفة دافئة” ثلاثية روائية كتبها الكبيري، وعن أسباب اعتماده على شكل الثلاثية في الكتابة رغم ما تفرضه من قواعد، يقول “في الحقيقة، عندما فكرت في الانتقال من كتابة الشعر، الذي دأبت عليه لسنين طويلة، والانتقال إلى كتابة نصوص سردية بغاية نشرها، بدأت بكتابة قصة طويلة في بداية التسعينات من القرن الماضي، تحت عنوان ‘إلى متى؟’، كان موضوعها عطالة خريجي المعاهد والجامعات، لكن لم يكتب لها أن تنشر. فبدأت أراكم بعض المسودات النثرية من قصص قصيرة وملاحظات وتأملات وحكايات متفرقة من الذاكرة ومن الواقع ومن الخيال ومن المحكي، لأكتشف مع مرور الوقت، أن ما أود أن أكتبه أكبر بكثير من حجم قصيدة أو نص قصصي، فكتبت ‘مصابيح مطفأة‘، لكني أحسست أيضا أنها لم تكن كافية وبأني ما زلت ممتلئا بسيرة ‘المحجوب‘، الشخصية الرئيسية في الثلاثية، فكتبت ‘مقابر مشتعلة‘ ثم بعد ذلك بسنوات كتبت ‘أرصفة دافئة‘. لكن حتى وأنا أكتب بهذا التسلسل، حرصت أن أكتب بتقنية تجعل كل نص روائي من هذه الأعمال الثلاثة مستقلا بذاته عن الآخر”.
كل أعمال أحمد الكبيري الروائية مستوحاة من حكايات حقيقية منطلقها الواقع المعيش، لكن بناءها الروائي متخيل ومركب
يُبيّن الكبيري أن ثمة إلحاحا وإصرارا من طرف أشياء تسكنه وتستفزه وتصر عليه أن يكتب عنها، وهو ما يحسه فعلا يملأه ويدفعه إلى الكتابة كنوع من الخلاص والتفريغ والاحتجاج كي يرتاح، أما عن الامتلاء فيأتي من حساسيته المفرطة في الهشاشة، كإسفنجة تمتص سريعا دموع وآلام الإنسان المسحوق والمهمش في عالم رهيب لا يرحم.
وفي ما يتعلق بالقارئ، يقول الكبيري “بكل صراحة، عندما أكتب لا أهتم لأي شيء. كل ما يشغلني هو القبض على الفكرة، كيفية صياغتها ودمجها في سياق يكون لائقا شكلا وخطابا، متعة وفائدة. ربما القارئ الوحيد الذي يكون حاضرا بقوة، وقت الكتابة، في ذهني هو ذلك المبدع القرين الذي يسكنني، الذي يظل طول الوقت يراقب كلماتي وأسلوبي وتقنياتي وخطاباتي، تارة محرضا على جرأة أكبر وتارة مصححا وتارة ساخرا ومنتقدا ونادرا ما يكون راضيا”.
ويضيف “أكون كمهندسا، يضع تصميما لبناء بمواصفات معينة، يطمح إلى أن يكون تحفة في شكله وزينته وإضاءاته ومحيطه، بينما يحضر قريني المبدع كصاحب البناء لا يكف عن إبداء ملاحظاته وتوجيهاته. وطبعا دون أن يكون فعل الكتابة خاضعا لأي طلب ولا موجها وفق أي أيديولوجيا، ما عدا الأفكار والحريات والقناعات التي أؤمن بها، والتي تنتصر في أغلبها للإنسان الضعيف المقهور حيث كان. وهذا لا يعني أني أدعي كتابة روايات متميزة، لكني أقول بكل اعتزاز بأن كل ما كتبته وأكتبه، كتبته بصدق وبحب وبقناعة ولا أتوخى إرضاء أحد كيف ما كان، بقدر ما أتوخى أن تصرخ شخوصي في وجه العالم وتقول كلمتها بكل حرية”.
فضاءات مهمّشة
يكتب الكبيري عن الحياة المغربية بكل تفاصيلها، ويشير إلى أن كل ما يفكر فيه أثناء الكتابة هو النص الإبداعي الذي يكون بصدد الاشتغال عليه. وهذا الإبداع كأي مخلوق في الحياة، قد يصادفه النجاح فينتشر بين الناس كما ينتشر عبق فواح من بستان مزهر، وقد يصل إلى آفاق بعيدة في هذا العالم الشاسع، كما هو حال الأعمال الإبداعية العظيمة التي مات أصحابها وبقيت هي خالدة قاهرة لمفهوم المكان والزمان واللغات. وقد يخرج ميتا من الوهلة الأولى وينسى وكأنه لم يولد قط.
وعن اهتمامه بمدينة وزان المغربية، يقول “شأني شأن كل الكتاب في العالم، لا يمكنني أن أكتب إلا عن الأشياء التي أعرف تفاصيلها الصغيرة ويعنيني أمر الإنسان فيها، ومدينة وزان بحكم انتمائي إليها، لا تشكل إلا نموذجا مصغرا للمدن العتيقة والفضاءات المهمشة التي يمكن أن نجد لها شبيها في العديد من مدن المغرب وفي جل بلداننا العربية، وربما حتى في بلدان مشابهة لنا في كل أنحاء العالم، حيث الأماكن وجل الناس فيها متروكون لحالهم في مواجهة الفقر والمرض والجهل والظلم والحكرة، يصارعون قدرهم ومصائرهم كما يصارع أسرى عزل جيشا مدججا بأحدث الأسلحة الفتاكة”.
ويلفت إلى أن كل أعماله الروائية كانت مادتها الخام مستوحاة من حكايات حقيقية منطلقها الواقع المعيش، لكن بناءها والقالب الروائي الإبداعي الذي اختاره كقالب لها، هو متخيل ومركب، بحيث تصبح قصة واحدة مستلهمة من الواقع خيطًا ناظما لحكايات متخيلة، لها فضاءاتها والأزمنة التي تتحرك فيها وكذا منطقها الخاص الذي يوهم بواقعيتها، كل ذلك بحمولة خطاب ورسائل وأسئلة ومواقف، يريد اقتسامها مع قرائه المفترضين.
أما عن حجم حضوره الذاتي في أعماله، فيقول “أعتقد، وكما قال الشاعر والكاتب المغربي عبداللطيف اللعبي في أحد حواراته ‘إن حضور ذاتية الكاتب في أعماله الإبداعية هو ما يجعل هذه الأعمال متميزة‘، وأنا بالتأكيد حاضر بقوة في جل أعمالي، سواء كذات أو كموقف أو كأسلوب. فشخوصي في أغلبها، شخوص مركبة من أصوات متعددة، تتقاطع فيها أناي مع ذوات أخرى”.
القارئ الوحيد الذي يكون حاضرا بقوة وقت الكتابة هو ذلك المبدع القرين الذي يسكن الكاتب كمراقب ناقد
ويؤمن الكبيري بأن للكتابة أدوارا خطيرة، لكن تلك الأدوار ترتبط في مجملها بخلفية الكاتب الثقافية وقناعاته المبدئية أو الأيديولوجية. يقول “وللأسف في غياب مجتمع قارئ متفاعل ونقاش ثقافي دائم ومستمر يظل تأثير خطاباتنا الإبداعية تأثيرا محتشما. فنحن لا نكتب، إنما نقاوم، ونقاوم اليأس تحديدا”.
يختم الكبيري حواره بالحديث عن الحالة الثقافية في المغرب قائلا “تبدو لي ملتبسة نوعا ما. بقدر ما نلاحظ تطورا مطردا كميا في الإصدارات التي تتزايد كل سنة ومبادرات فردية جميلة، بقدر ما نلاحظ غيابا شبه تام لأنشطة الإطارات الثقافية الرسمية والجمعيات المهمة، المفروض فيها أن تكون حاضرة بقوة وفاعلة بشكل دائم لخلق رواج ثقافي يسهم في تقريب الكتاب من القراء وتداوله”.
يعتقد الكاتب المغربي أن “حل هذه المعضلة سيظل مستعصيا، إذا لم نعش ثورة ثقافية حقيقية بوضع استراتيجية بأهداف واضحة يكون منطلقها إصلاح منظومة التعليم وإشراك كل الفاعلين في إنجاح الورش الثقافية الهامة وجعلها كرافد أساسي من روافد التنمية البشرية والاقتصادية والاجتماعية. وهذا أمر يتطلب بالإضافة إلى إرادة حقيقية من الجهات المسؤولة، وقتا طويلا، لأن رهانه ينبني على إحداث تغيير جذري في العقليات”.