أحمد الحليمي العلمي.. ربان مندوبية التخطيط في المغرب

يرأس أحمد الحليمي العلمي المندوبية السامية للتخطيط، المؤسسة الرسمية، لمدة تقارب 15 سنة دون توقف أو استراحة في العمل للسهر على إنتاج البيانات الاقتصادية والمؤشرات الاجتماعية الدقيقة في كافة مناحي الحياة اليومية للمغاربة، ويمتلك القدرة على تصويب الأعطاب التي تتسبب فيها سياسات الحكومة والمؤسسات. لا مشكلة لديه في الاستدانة من الخارج إذا كان الهدف هو الاستثمار، لكنه يتعفف عن اللجوء إلى الاستدانة من السوق الداخلية حتى لا تتأثر القطاعات الإنتاجية المحلية الواعدة في ظل بلورة رؤية لما يجب أن يكون عليه الاقتصاد المغربي.
العلمي رجل الدولة اليساري الذي يقترب من التقاعد من منصبه، يترك وصيته بضرورة امتلاك زمام المصير الاقتصادي للمملكة، والتخلص من البعد الدوغمائي لتوصيات المؤسسات المالية الدولية، وعدم التمسك بالتوازنات المكرواقتصادية في ذاتها، كما يلح على ضرورة التجاوب مع ما تنتجه المندوبية ورؤيتها لما يجب أن يكون عليه الاقتصاد الوطني، تمليها الرغبة في خلق نقاش عمومي، يساعد في رسم معالم سياسة اقتصادية، تكون لها أهداف اجتماعية.
في قلب استراتيجيات المملكة

العلمي رجل دولة يؤمن بقوة إحصاءاته التي يواجه بها أرقام الحكومات المتتالية عن نسب النمو ومعدلات الدخل
دعا العاهل المغربي الملك محمد السادس، بمناسبة افتتاح البرلمان في الخريف الماضي، إلى إجراء إصلاح عميق للمندوبية السامية للتخطيط، لتأهيلها لتكون قادرة على مواكبة النموذج التنموي، وهذا ما تم فهمه على أنه تحفيز للعلمي لتجهيز كل الأدوات اللازمة وتأهيل الشخصيات الكفؤة لاستمرار هذه المؤسسة في تقديم المطلوب منها من إحصائيات وأرقام وقراءات للوضعية الاقتصادية والاجتماعية للمملكة في المراحل المقبلة، لجعلها آلية للمساعدة على التنسيق الاستراتيجي لسياسات التنمية، ومواكبة تنفيذ النموذج التنموي، وذلك باعتماد معايير مضبوطة، ووسائل حديثة للتتبع والتقويم.
العلمي رجل دولة مؤمن بقوة بالإحصائيات التي تقدمها المندوبية، لهذا يقارع بإحصائياته كل أرقام الحكومات المتتالية فيما يخص الشأن العام، حول نسب النمو ومُعدّلات البطالة وإحصائيات مستوى الدخل، وخارطة انتشار الفقر، فهو الخبير الاقتصادي، وواحد من أبرز مدراء المؤسسات العمومية الاستراتيجية في المملكة، استغل إمكانياته الأكاديمية وخبرته السياسية التي طورها إلى جانب عبدالرحمن اليوسفي في حكومة التناوب نهاية التسعينات من القرن العشرين، ليعطي هذه المؤسسة وزناً نوعياً لتصبح من المؤسسات الغنية بالمنتوج الإحصائي في قضايا حيوية تهم النمو الاقتصادي والسكّان ومؤشرات البطالة والخصوبة والأسعار والمعيشة وغيرها، ما جعله هدفاً لانتقادات عدد من القطاعات الوزارية وغيرها التي لا تقلقها إحصائيات مؤسسته وعصيّا على الترويض السياسي.
التوجّه العام بين المعارضين في الماضي كان رفض فكرة الاشتغال بالإدارة واعتبارها بمثابة خيانة للمبادئ، لكن العلمي ينظر إلى الأمور من زاوية مختلفة عندما يقول إن السياسي يجب أن ينطلق من العلم بالواقع
وعندما استقبله الملك محمد السادس في العام 2014 أمده بدعمه وتأييده للمحافظة على استقلالية المندوبية السامية للتخطيط، كمؤسسة رسمية للمعلومة الإحصائية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، حيث تُناط بها مهمة إنتاج المعلومة الإحصائية وتحليلها وحفظها ووضعها رهن إشارة السلطات العمومية والفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين والباحثين والمجتمع المدني والعموم. وتضطلع المندوبية، بمهمة إعداد الحسابات الوطنية والجهوية والقطاعية والقيام بالدراسات الديموغرافية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية وإعداد التوقعات الاقتصادية والسوسيو – ديموغرافية وتتبّع تطور الظرفية الاقتصادية والمالية وظروف معيشة السكان.
كانت توقعات المندوبية السامية للتخطيط التي يرأسها العلمي حاضرة أيضا بخصوص خطر الإصابة بفايروس كورونا، والتي رجحت أن يصيب الفايروس حوالي 17 مليون مغربي، في حال عدم التقيد بإجراءات التباعد الجسدي، وعدم تطبيق تدابير الحماية الذاتية ورفع الحجر الصحي بشكل عام وكلي، فمنذ ولوجه أبواب المندوبية السامية للتخطيط التي ارتبطت باسمه منذ تعيينه على رأسها سنة 2003، وهو يشتغل بتفان لثماني ساعات أو أزيد في اليوم دون أن يتسلل الملل أو التعب إلى جسده أو ذاكرته الفولاذية، دقته في العمل تجعل من المحيطين به يسارعون الخطى لمواكبة ما يقترح من أفكار أو إجراءات.
الصوفي المثابر
العلمي مصبوغ بتربية المتصوفة التيجانيين الذين تردّد على زاويتهم، بحسب المقربين منه، إضافة إلى اطلاعه على أعمال كبار المتصوفة كابن عربي وغيره، دون أن ينسى حظه من الموسيقى والفنون الجميلة
ثقافته المزدوجة، العصرية والتقليدية، أهّلته لتبوّؤ مكانته المرجعية داخل الحزب وفي إدارات الدولة إلى الآن، فالرجل نهل من أمهات الكتب الأساسية في العلوم الاقتصادية والسياسية، كما كان المسجد، محطته الأولى في تأصيل معرفته باللغة العربية وأساسيات الدين الاسلامي، وتطبّع بمنهجية وتربية المتصوفة التيجانيين حيث كان مترددا على زاويتهم حسب العالمين بحياة الرجل وأسلوب معيشه كما كانت مطالعاته في الجانب الروحاني لكبار المتصوفة، ومنهم ابن عربي، دون أن ينسى حظه من الموسيقى والفنون الجميلة، واشتغاله في الإدارة المغربية سواء في القرض الفلاحي أو غيره، مع أنه سياسي في المعارضة، كانت غايته التمكن من مصدر المعلومة التي هي الإدارة، وهو توجه عكس ما كان منتشرا بين المعارضين آنذاك بأن فكرة الاشتغال بالإدارة بمثابة خيانة المبادئ، لكنه ينظر إلى الأمور من زاوية مختلفة عندما يقول إن السياسي يجب أن ينطلق من العلم بالواقع وأن يتوفر على معلومات مضبوطة.
نظرا لقوة موقعه وكفاءته، عمل العلمي إلى جانب كل من القيادي البارز عمر بن جلون والمفكر الاشتراكي الراحل محمد عابد الجابري على صياغة أيديولوجية الحزب الجديدة، في العام 1974، وبعدها باثنتي عشرة سنة شغل منصب مدير عام لأمانة اتحاد بين المغرب وليبيا كان مصيره الزوال سريعا، وإلى جانب مسؤوليته الحزبية وحتى لا يركن إلى الجمود الأيديولوجي كان يقوم بمهام استشارية بكونه خبيرا في القضايا المؤسساتية، وذلك في أفريقيا والعالم العربي لصالح مركز الاستثمار التابع لمنظمة الأغذية والزراعة العالمية، والبنك أو الصندوق الدولي للتنمية الفلاحية.
ورغم الانتقادات التي وجهت إليه من أعضاء الحزب بأنه تخلى عن أهداف الحزب ومبادئه، بقي يؤكد أنه لم يحد قيْد أُنملة عن مقاربته ومُثُله العليا في تصوره للمجتمع وسبل تغييره، فيقول ”أنا ما زلت أؤمن بمنهجية التحليل الاشتراكي وأنه الأقدر على استيعاب حركية الواقع وتناقضاته قصد تجاوزها، كما أؤمن بأن تجاوز القدرات المرحلية لتغيير المجتمع لن يؤدي إلا إلى الانتكاسات وإلى العكس تماما من الهدف المتوخى من عملية التغيير”.
مهندس حكومة التناوب
الحنكة والدهاء خصلتان امتاز بهما العلمي، وقد وظفهما بقوة أثناء تشكيل حكومة التناوب التي قادها عبدالرحمن اليوسفي في العام 1998، وكان العلمي حاضرا بقوة في التشكيلة من بوابة وزارات الاقتصاد الاجتماعي والصناعة التقليدية والمقاولات الصغرى والمتوسطة والشؤون العامة للحكومة، تلك الصفة التي أهلته للعب أدوار كثيرة داخل الحكومة وخارجها.
ومنذ مشاركته في الحكومة إلى غاية العام 2002، عاصر خمس حكومات آخرها التي يترأسها الليبرالي عزيز أخنوش، وقبلها رافق الحكومة التي قادها الإسلاميون لولايتين، ولم تكن العلاقة بينهما سلسة، ونجاحه في دواليب التسيير الحكومي وفي عمله في مؤسسة استراتيجية كالمندوبية السامية للتخطيط، ساهم في بلورة تجربته الإدارية، فكل معارض بالنسبة إليه يطمح إلى الوصول يوما ما إلى تحمّل هذه المسؤولية.
تخطى عقده الثامن بثلاث سنوات ولازال نشيطا متيقظا متابعا لما يعتمل في المشهد السياسي والاجتماعي في بلاده، ولازالت دروس الجغرافيا الاقتصادية، التي نال فيها شهادته الجامعية، حاضرة إلى يوم الناس هذا، وقبل أن يساهم في هندسة حكومة التناوب التي لا يحبذ تسميتها، شغل أمينًا عامًا في وزارة السياحة مطلع السبعينات من القرن الماضي، وبعدها وزيراً للتخطيط والتنمية الإقليمية.
العلمي لا مشكلة لديه في الاستدانة من الخارج إذا كان الهدف هو الاستثمار، لكنه يتعفف عن اللجوء إلى الاستدانة من السوق المغربية الداخلية
اتّصل به اليوسفي في اليوم الذي استُدعيَ فيه من قبل القصر الملكي لمقابلة العاهل المغربي الراحل الملك الحسن الثاني، فذهب إلى الدار البيضاء ليخبره بموضوع تشكيل الحكومة، وقال له اليوسفي “لقد كنا دائماً نقوم باستغلالك، ومثلما استغلّك سي عبدالرحيم (بوعبيد)، الكاتب العام للحزب إلى غاية 1992، سأستغلّك أنا أيضا، وأريدك أن تكون معي في هذه الحكومة، وأنت من أقنعتني بها”.
وقد ترشّح العلمي باسمه في الانتخابات التشريعية لسنة 1977، لكنه رفض ضغوطات الحزب والقيادة لإعادة ترشيح نفسه مرة أخرى، ممتنعا عن تقديم الأسباب، وهذا فيه امتحان لتحفظ رجل الدولة، وفي شهادته حول العلمي يقول الأكاديمي والسياسي عبدالله ساعف إن ”المندوب السامي للتخطيط، أسهم بإسهاب في إنضاج التوجه السياسي الذي أدى بحزب الاتحاد الاشتراكي إلى الطريق الذي انتهى بتشكيل حكومة التناوب“.
ولأسباب سياسية وأيديولوجية لم يكن خيط الود ممدودا بين الحليمي وحكومة الإسلاميين التي دامت لعقد من الزمن، فقد استهل التصادم بين الطرفين مع تنصيب حكومة عبدالإله بنكيران، الذي لم يستسغ بشكل قاطع أرقام مندوبية العلمي، ولطالما كانت هدفا لهجومه المتكرر، عندما تكون أرقام ومعطيات المندوبية متناقضة مع ما تقدمه الحكومة في إطار توقعات قانون المالية، دفعت نواب العدالة والتنمية إلى اتهام المندوب السامي للتخطيط بخدمة من يريد عرقلة عمل الحكومة.
المجتمع والمرأة

كاشتراكي آمن بقيم المساواة والحرية نادى العلمي بضرورة تخفيف حدة الأعباء التي تكابدها المرأة المغربية في ما يتعلق بالأشغال المنزلية، وبتحول ينهي تحميل النساء القسط الأكبر من هذا النمط. وكعادته في تقديم أفكار ناتجة عن قناعاته السياسية والمجتمعية، اعتبر أن المغرب يحتاج مشروعا مجتمعيا كبيرا من أجل نهضة البلاد رابطا إياه بقضايا النساء، فالإحصائيات الرسمية تكشف بالملموس غياب المساواة بين الجنسين، وكي يكون منصفاً طالب باعتماد المساواة بين الرجل والمرأة، فالرجل يجب أن يشارك هو أيضا في المقاربة ولأن غياب المساواة يشكل عاملاً معيقا لتقدم المجتمع المغربي، ولهذا “وجب ربط المرأة بالإنتاجية وتحفيزها عبر الراتب والحد من البطالة المستفحلة في صفوف النساء”.
توقعات المندوبية السامية للتخطيط التي يرأسها العلمي حضرت أيضا بخصوص خطر الإصابة بفايروس كورونا، مرجحة احتمال أن يصيب الفايروس حوالي 17 مليون مغربي، في حال عدم التقيد بإجراءات التباعد الجسدي
ولطالما كانت المرأة في صلب اهتماماته سواء عندما كان وزيرا في حكومة الاشتراكيين، أو عندما تبوأ منصب رئاسة مندوبية التخطيط، فالتقدم الذي حققته النساء المغربيات على العديد من الأصعدة، يتقدمها الاقتصادي والاجتماعي، محفز كبير على اعتبار أن النساء يشتغلن أكثر من الرجال في العمل، لكن في المقابل هناك ضعف كبير على مستوى التحفيزات والأجور، وهذا ما يجعل نشاطهن يتراجع في بعض الأحيان.
يصرّ العلمي على ضرورة وضع استراتيجية وطنية لتطوير إحصائيات النوع الاجتماعي واستعمالها في السياسات العمومية تحمل بين طياتها احترامه للمرأة وتقديره لدورها، فحضور النساء على مستوى مناصب القطاع العام يمثل 40 في المئة من الأطر، والشغل بالنسبة إلى ما خلصت إليه دراسات المندوبية محتكر من قبل الرجال بسبب الطلب الاجتماعي.