أحلام السيد موسى دارمانان

الفرنسيون من أصول عربية والمنتمون إلى الأقلية المسلمة لن ينسوا بسهولة مواقف دارمانان من المهاجرين، ومن الصعب جدا أن يصوتوا لسياسي يميني حتى وإن كان وزيرا سابقا اكتشف مؤخرا أن جده جزائري.
الاثنين 2024/10/07
صاحب مبادرات كرّست التمييز ضد المسلمين

لم يفهم الكثيرون لماذا اختار وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانان يوم التسلم والتسليم مع خلفه برونو راتايو منذ أيام كي يثير مشكلة التمييز التي يعاني منها الفرنسيون المسلمون أو من أصول عربية، وهو المعروف عنه طوال عهدته انتهاجه لسياسات أساسها التضييق على المهاجرين وعلى الأقلية المسلمة في فرنسا.

في موكب التوديع صرح دارمانان بأن اسمه الكامل هو “جيرالد موسى جون دارمانان” وأن والده كان ينوي تسميته “موسى” تخليدا لذكرى جده الجزائري الذي كان يحمل هذا الاسم، وكان جنديا في الجيش الفرنسي أيام حرب التحرير الجزائرية.

وأضاف وزير الداخلية السابق أنه “من الواضح جدا وبكل صراحة أنه لو كان اسمي موسى دارمانان لما تم انتخابي رئيس بلدية أو عضوا في مجلس النواب، وما كنت لأعيَّن وزيرا للداخلية من أول وهلة”.

◄ القليل من الطامحين للمناصب العليا في فرنسا يعوّلون على أصوات المواطنين الفرنسيين المسلمين أو الذين هم من أصول عربية لعدة أسباب، من بينها عدم إقبالهم على التصويت بأعداد كبيرة يوم الاقتراع

أثار كلامه حفيظة حزب “التجمع الوطني” حيث اعتبر جوردن برديلا رئيس هذا الحزب -اليميني المتطرف- تصريح دارمانان “إهانة لفرنسا التي أعطته كل شيء”.

فاجأ تصريحه في الواقع الكثيرين سواء على اليمين أو على اليسار.

في هذا النطاق قالت صحيفة “ليبيراسيون” اليسارية إن “جيرالد دارمانان اكتشف العنصرية يوم مغادرته لوزارة الداخلية”.

ووصف الكاتب الفرنسي جون ميشال بران إشارة دارمانان إلى الممارسات العنصرية التي يتعرض لها الفرنسيون من أصول عربية بأنها “دموع تماسيح”، مذكرا -في مقال صحفي نشره حول الموضوع- بأن وزير الداخلية السابق “كان صاحب مبادرات كرّست التمييز ضد المسلمين من بينها إجراءات للغلق الإداري التي اتخذها ضد المساجد وأخرى ضد مدارس المسلمين وكلها بذرائع واهية”.

تقول الدراسات واستطلاعات الرأي في فرنسا إن هناك بالفعل تمييزا ضد الأشخاص الحاملين لأسماء عربية أو هي توحي بأنهم مسلمون، خاصة عند النظر في طلبات التشغيل.

ومن الأكيد أن الخلفية الدينية والعرقية للأشخاص قد تشكّل عقبة لمن له طموحات سياسية أو يريد تولّي مناصب عليا للدولة في فرنسا. وقد فضحت ذلك تصريحات العديد من قياديي أقصى اليمين خلال الانتخابات البرلمانية الأخيرة والتي دعوا فيها إلى إقصاء أصحاب الجنسيات المزدوجة (خاصة منهم أصحاب الأصول المغاربية) من “الوظائف الحساسة”.

ولكنه لا يمكن إنكار حقيقة أخرى تتمثل في أن العديد من الشخصيات الفرنسة من أصول عربية تمكنت من تجاوز هذه العقبة؛ فقد تولت العديد من هذه الشخصيات حقائب وزارية من بينها وزيرة الثقافة الحالية رشيدة داتي ووزيرة التعليم السابقة نجاة فالو بلقاسم أو وزيرة الثقافة السابقة ريما عبدالملك.

إن أردنا أن نكون متفائلين يمكن أن نقول إن دارمانان كان بشجبه للتمييز ضد المهاجرين الذين يحملون أسماء عربية بصدد التعبير عن آراء شخصية أو عن قناعات حصلت له حديثا ولم يكن يستطيع التعبير عنها عندما كان طيلة عهدته الوزارية مضطرا إلى لعب دور اليميني المتشدد الذي رسمه له ماكرون في نطاق سعي هذا الأخير لمغازلة أقصى اليمين.

ولكنه كان دورا لعبه بحماسة كبيرة، إذ لم يألُ جهدا أثناء تحمله مهام الوزارة في التقرب من رجال الأمن والدفاع عنهم حتى عندما كانوا يتهمون باستعمال العنف المفرط أو بالممارسات العنصرية.

◄ روابط الفرنسيين من أصول عربية تبدو أكثر هشاشة من روابط بقية مواطنيهم بالبلاد التي يحملون جنسيتها لإحساس الكثير منهم بأنهم مواطنون من درجة ثانية

غير أنه وجد يوم كان يستعد للخروج من وزارة الداخلية من يزايد عليه في مثل هذا الدور، بعد أن عين ماكرون رئيس حكومة ووزير داخلية أكثر منه تشددا في معاداة المهاجرين وبث الخوف والريبة منهم.

رئيس الحكومة ميشال بارنيي وعد البرلمان بالتضييق على منح التأشيرات لمواطني البلدان التي لا تتعاون على تسلّم مواطنيها المطرودين من فرنسا ويقصد بها بلدان المغرب العربي. أما وزير الداخلية الجديد برونو راتايو فقد أكد حرصه على “إعادة فرض النظام” وكأنما دارمانان كان عنوانا لليبرالية المفرطة أو ناشطا في إحدى المنظمات المدافعة عن حقوق المهاجرين.

صرح الوزير الجديد بأنه سيتصدى للهجرة غير النظامية التي قال إنها “تكتسح فرنسا بأعداد كبيرة”. ووعد بالحد من إنفاق الدولة على علاج المهاجرين غير الشرعيين، رغم أن نسبة هؤلاء في المجتمع الفرنسي لا تتجاوز 1.2 في المئة من السكان ولا يمثل إنفاق الدولة على علاج هذه الفئة سوى 0.5 في المئة من إنفاقها الصحي.

غادر دارمانان الحكومة ولكنه لم يغادر السياسة. فبعد أن خرج من الوزارة وفشل في الفوز بمقعد رئيس الحكومة أضحى يركز جهوده على التموقع كمدافع عن الطبقات الشعبية وإن كان ذلك من منطلق يميني، متبنيا أفكارا يصفها البعض بـ“الديجولية الاجتماعية”.

ويحاول دارمانان في هذا الاتجاه إبراز أصوله الاجتماعية المتواضعة بدءا بوالدته التي كانت عاملة نظافة في البنك المركزي الفرنسي.

كما انتقد منذ أيام سياسات ماكرون قائلا إنها أدت إلى “قطيعة مع المواطنين البسطاء ومع الطبقة الشعبية والعمال”.

قد يكون دارمانان بدأ بعدُ حركاته التسخينية على أمل أن يكون جاهزا لخوض رئاسيات 2027 والتقدم على مارين لوبان الزعيمة التاريخية لأقصى اليمين التي ترشحها استطلاعات الرأي للفوز بذلك الاستحقاق.

من الصعب جدا أن يتمكن دارمانان من رسم صورة جديدة له غير الصورة التي اكتسبها كوزير للداخلية. ولكنه يسعى إلى التركيز على الانتماءات الاجتماعية للناخبين وليس انتماءاتهم السياسية، واهتمامه على وجه التحديد بمن يسميهم “الفرنسيين البسطاء من أصول عربية” الذين يصوتون عادة حسب قوله للزعيم اليساري جون لوك ميلانشون و“البيض البسطاء” الذين يصوتون لفائدة مارين لوبان.

وهو يرى نفسه ينهل بعد ثلاث سنوات من الآن من الخزان الذي يضم أصوات الناخبين “البسطاء” لتحقيق حلمه في الوصول إلى قصر الإليزيه.

◄ في موكب التوديع صرح دارمانان بأن اسمه الكامل هو "جيرالد موسى جون دارمانان" وأن والده كان ينوي تسميته "موسى" تخليدا لذكرى جده الجزائري الذي كان يحمل هذا الاسم

ولكن الفرنسيين من ذوي الأصول العربية والمنتمين إلى الأقلية المسلمة لن ينسوا بسهولة مواقفه ضد المهاجرين. ومن الصعب جدا أن يصوتوا لسياسي يميني حتى وإن كان وزيرا سابقا اكتشف مؤخرا أن جده جزائري.

القليل من الطامحين للمناصب العليا في فرنسا يعوّلون على أصوات المواطنين الفرنسيين المسلمين أو الذين هم من أصول عربية لعدة أسباب، من بينها عدم إقبالهم على التصويت بأعداد كبيرة يوم الاقتراع.

فخلال الانتخابات البرلمانية الأوروبية التي جرت في يونيو/حزيران الماضي صوت 62 في المئة من الفرنسيين المسلمين لفائدة أقصى اليسار. لكن قرابة 60 في المئة من الناخبين المسلمين في فرنسا امتنعوا عن التصويت.

كما أن روابط الفرنسيين من أصول عربية تبدو أكثر هشاشة من روابط بقية مواطنيهم بالبلاد التي يحملون جنسيتها لإحساس الكثير منهم بأنهم مواطنون من درجة ثانية. وقد لوحظ خلال الأعوام الأخيرة أن الضغوط العنصرية كثيرا ما جعلت المواطن الفرنسي ذا الأصول العربية يفكر في الهجرة إلى بلاد أخرى، عوض التشبث بموقعه والدفاع عن حقه في أن يعامل على قدم المساواة مع الآخرين.

السيد دارمانان يتجاهل ذلك وهو الذي ساهم بسياساته في إضعاف موقع مواطنيه من ذوي الجذور العربية والمسلمة.

8