أجندات تركيا وإيران تفرض على دول الخليج حروبا يجب خوضها

يعتبر يونس بلفلاح، مستشار في الاقتصاد السياسي والعلاقات الدولية ومدير مؤسسة ميدفوكيس الفكرية المتخصصة في الجغرافيا السياسية للبحر المتوسط، أن مواجهة الاستفزازات الإيرانية والتدخلات التركية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تحتاج إلى مشروع عربي، تجسدت ملامحه الأولى في التحالف العسكري والأمني الذي تقوده السعودية والإمارات، والذي يجب أن يتحول إلى تحالف اقتصادي، يقوي رؤى الانتقال إلى مرحلة ما بعد النفط، ويعزز مناعتها من أي طوارئ أو تحديات.
الرباط - حذّر تقرير صادر حديثا من إفلاس الصناديق السيادية لدول الخليج العربي خلال الأعوام الخمسة عشر المقبلة، في ظل تدني إيرادات النفط والغاز ما لم تسارع حكوماتها إلى إجراء إصلاحات اقتصادية حاسمة وموجعة. وهو تحذير يقلّل من حدّته يونس بلفلاح، أستاذ الاقتصاد السياسي والعلاقات الدولية بفرنسا، لافتا إلى أن دولا مثل السعودية والإمارات فتحت فعلا أبواب البدائل الاقتصادية التي ستجعلها في مأمن من السيناريو القاتم الذي رسمه تقرير صندوق النقد الدولي على المستوى الاقتصادي، كما على مستوى مواجهة التحديات الاستراتيجية والأمنية التي تفرضها التدخلات الخارجية في المنطقة وأجندات تركيا وإيران.
وكان تقرير صندوق النقد الدولي محور حديث بلفلاح مع “العرب”، الذي تطرق أيضا إلى الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وتداعياتها الاستراتيجية، كما التدخلات الخارجية والأدوار الإيرانية والتركية التي تعمّق الأزمات في المنطقة وتزيد من ضغط التوترات القابلة للانفجار في أي لحظة.
بالعودة إلى تقرير صندوق النقد الدولي الخاص بدول الخليج العربي، يشير بلفلاح إلى أن هذه النوعية من التقارير تعتبر أمرا طبيعيا يصدر بشكل دوري من طرف المؤسسات الدولية بغرض استشاري وتوجيهي وليس تقريريا وإلزاميّا. وصدوره لا يعني ضرورة أن يتم ربطه بنظرية المؤامرة بل يمكن اعتبار توقيت هذا التقرير متأخرا.
ويلفت بلفلاح إلى أن دول الخليج انطلقت منذ فترة في تنويع مصادر الإنتاجية والاستفادة من عوائد النفط في استراتيجيات استثمارية، وكذلك الارتقاء بالقطاعات الخدماتية كالمالية والسياحة وتطوير بعض القطاعات الصناعية كالفضاء في الإمارات والصناعات العسكرية في السعودية بغرض التماشي مع مستلزمات اقتصاد القرن الحادي والعشرين المميز بعولمة الأسواق، والمعرفة، والتكنولوجيا وتعدد المخاطر.
قال المقرض الدولي الذي مقره واشنطن إن الطلب العالمي على النفط قد يبلغ ذروته في 2040 أو قبل ذلك بكثير إذا تدعمت الجهود التنظيمية لحماية البيئة وترشيد استهلاك الطاقة. وتابع أن ”جميع دول مجلس التعاون الخليجي تدرك الطبيعة الثابتة للتحدي الذي تواجهه“.
وتدرك دول القوى الخليجية هذا الواقع المستجد مع تحول المنطقة صوب اقتصاد غير نفطي. وبدأت تتبنى سياسات متنوعة ستحسم المرور الآمن إلى مستقبل اقتصادي من غير ريع نفطي، وهو ما يؤكده يونس بلفلاح، لافتا إلى أن دول الخليج العربي تسعى عبر رؤى اقتصادية كرؤية السعودية 2030 إلى الانتقال من الاقتصاد الريعي إلى رحاب اقتصاد إنتاجي والتفكير في عصر ما بعد النفط.
ويتخذ بلفلاح كمثال رؤية 2030 في السعودية التي تشكّل نقطة تحوّل تاريخية وتحتوي على مشاريع طموحة قادرة على جعل السعودية من بين أهم عشرة اقتصادات في العالم، فقد نجحت المملكة في تقييم شركة أرامكو النفطية بما قيمته 2 تريليون دولار بما يمكنها من استغلال هذه العوائد في شراء حصص مهمة بشركات عالمية.
على ذات المنوال، استبقت الإمارات هذه الظرفية من خلال تنويع الاقتصاد حتى أصبح العائد النفطي يشكل 30 في المئة فقط من الناتج الداخلي للإمارات وأضحت من بين أهم 30 اقتصادا في العالم ووجهة مفضلة للاستثمارات، كما أن الصندوق السيادي لأبوظبي يعد من أهم الصناديق الاستثمارية في العالم ولديه توجه للاستثمار في قطاعات واعدة كالطاقات المتجددة وعلوم الفضاء والاقتصاد الرقمي.
ضغوط سياسية
بالنظر إلى الخارطة الجيوسياسية الراهنة، تواجه الدول الخليجية ضغوطا استراتيجية وتحديات أمنية متعددة، فرضت تخصيص ميزانية هامة للتسلح، وهو أمر قد يراه البعض مصدر تأثير سلبي على الرؤى الاقتصادية ويحد من انطلاقها على المدى البعيد. وهنا، يعترف بلفلاح بأن الأوضاع الجيوسياسية في الشرق الأوسط تعتبر معقدة جدا بحكم التغييرات التي طرأت على بنية العديد من الدول وكثرة الأجندات الدولية خاصة مع سياسات التمدد التركية والإيرانية، وهذا يجعل من الإنفاق العسكري أمرا طبيعيا لحماية الأمن القومي.
ويضيف موضحا أن الأوضاع الراهنة في المنطقة تفرض على دول الخليج حروبا يجب خوضها لأنها تهدد حدودها وأمنها كما هو شأن حرب اليمن، فالسبب الرئيسي لهذه الحرب هو انقلاب جماعة الحوثي المدعومة من إيران على الشرعية، وهو يشكل تهديدا مباشرا لدول الخليج.
في هذا الصدد، لا يجب النظر إلى الإنفاق العسكري على أنه تكلفة وعبء بل يمكن أن يشكل فرصة لتطوير الصناعات الدفاعية والارتقاء بكفاءة المؤسسات العسكرية عبر تحسين جودة تقنياتها وإنتاج وسائل للتكنولوجيا الدفاعية وخدمات في شكل خبرات عسكرية يمكن تسويقها على مستويات إقليمية ودولية.
ويلفت بلفلاح إلى أن سياسات التمدد الإيراني لا تمثل تهديدا لدول الخليج فقط وإنما تمثل تهديدا للأمن الدولي أيضا، من خلال تملصها من التزاماتها النووية وتوجيه أدواتها التخريبية في لبنان والعراق واليمن وسوريا للمزيد من العنف، ناهيك عن الخطاب العدائي والطائفي الذي تعتمده. وهي استفزازات تقابلها السعودية والإمارات بتبني سياسة تصفير المشاكل والاحتكام إلى القانون الدولي والاعتماد على المسار السياسي كما هو الشأن في الملف اليمني.
وتقلص الدور الإيراني بشكل كبير منذ خروج الولايات المتحدة من الاتفاق النووي وانتهاجها سياسة الضغوط القصوى، فالعقوبات الاقتصادية لها أثر كبير على الاقتصاد الإيراني الذي أصبح لديه معدل نمو سلبي ويعاني من نقص الاستثمارات وهروب رؤوس الأموال، ولا تتوفر البنوك على السيولة اللازمة وهناك نقص في الاستثمارات والخدمات.
كما أن هناك حاجة ماسة إلى المواد الغذائية والطبية، إضافة إلى ارتفاع معدلات البطالة والتضخم مما يؤثر بشكل مباشر على القدرة المعيشية ويزيد من ضغط الشباب الإيراني على الطغمة الحاكمة. وفقدت طهران هامش المناورة وضاقت بها السبل بعد خسارتها للأوروبيين الذين دافعوا عن مشاريعهم الاستثمارية في إيران وعن مجهودهم الدبلوماسي في صياغة الاتفاق النووي.
وهنا يشير بلفلاح إلى ضرورة استفادة دول الخليج من محاصرة الدور الإيراني في تعزيز مكانتها بالعالم العربي وتقوية علاقاتها مع عمقها الآسيوي، مشيدا بالاتفاقيات الاستراتيجية التي أمضتها السعودية مع الهند وباكستان، كما أن لدولة الإمارات علاقات متطورة مع الصين مما يؤدي إلى تنويع الشراكات ومصادر السلاح وتقوية الموقف الخليجي – العربي أمام الأجندات الإيرانية والتركية والغربية.
التدخل التركي
عند الحديث عن التدخلات في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يتبادر إلى الذهن مباشرة اللاعب التركي الذي ينخرط جيوسياسيا في عدد من الملفات الاقتصادية والسياسية والعسكرية والأمنية، وهو تدخل له تداعياته الاقتصادية والأمنية.
وعن الدور التركي، يشير يونس بلفلاح إلى أن لأنقرة مطامع في غاز شرق المتوسط، وهي تتطلع إلى إقامة منطقة نفوذ في شمال أفريقيا وتدعم الفصيل الإسلامي في ليبيا. ويضيف أنه مع انكشاف المشروع التركي بقيادة رجب طيب أردوغان، متمثلا في إيصال الإخوان المسلمين إلى الحكم، بدأت موازين القوى تتغير وظهر مشروع خليجي تقوده السعودية والإمارات يسعى لتشكيل تحالف عسكري – أمني من جهة وسياسي – اقتصادي من جهة أخرى، ويمكن القول إن نجاح هذه القوى الخليجية في إنجاز مخططاتها الاقتصادية سيشكل لبنة أساسية في بناء صرح عربي ومشروع سياسي متكامل من الجوانب الأمنية والدفاعية والاقتصادية والثقافية والإعلامية لتحويل منطقة الشرق الأوسط إلى منطقة تنمية وعمران بدل منطقة صراعات وحروب.