أجندات إقليمية ومحلية تلتقي على استنزاف السودان

تحولت السلطة الانتقالية في السودان إلى إطفائي حرائق دون أن تكون لها أي استراتيجية واضحة لنزع فتائلها التي تنتقل هنا وهناك، بفعل رواسب الماضي التي تشحنها قوى إقليمية ومحلية لها مصلحة في عدم استقرار البلاد.
الخرطوم - لم تنته السلطة السودانية من ضبط الأوضاع الأمنية في إقليم دارفور في غرب البلاد حتى بدأ شبح أزمتها العميقة يتسرب إلى محافظتي البحر الأحمر في الشرق وكردفان في الجنوب، وهو ما جعل السلطة الانتقالية تحاول سريعا اتخاذ جملة من الإجراءات لضبط المشهد قبل أن تواجه استنزافا بطيئا يفضي إلى كارثة جديدة.
وقال العميد الطاهر أبوهاجة المستشار الإعلامي للقائد العام ورئيس مجلس السيادة الفريق أول عبدالفتاح البرهان، إن أجهزة الأمن رصدت استخدام السلاح الناري لأول مرة في شرق السودان، ما يكشف عن تدخلات خارجية وداخلية لتأجيج الصراع ونقله إلى مناطق أخرى.
ونشرت وسائل إعلام محلية الأربعاء خبر إعفاء محافظ البحر الأحمر عبدالله شنقراي أوهاج ومدير جهاز الأمن بالمحافظة، لكن مجلس السيادة أطل الخميس ونفى صحة الخبر، لافتا إلى أن إعفاء الولاة من صلاحيات رئاسة الحكومة.
ووضعت الحكومة الثلاثاء خطة شاملة من خمسة محاور لاحتواء الصراعات القبلية والانفلات الأمني في الشرق والجنوب، هي: السياسي والأمني والعدلي والخدمي والمجتمعي، من دون تقديم تفاصيل حول الخطة وآليات تنفيذها.
ويقول متابعون إن ما يجري هدفه إعادة استنساخ أزمة دارفور من حيث تهيئة الأجواء المحلية للتسخين الأمني والقبلي وصولا إلى تحويل المحافظتين إلى قضية سياسية تجذب أنظار المجتمع الدولي إليها، وتدخل السلطة السودانية بشقيها مجلسي السيادة والوزراء في دوامة من العنف والانشغالات تعيق عبور المرحلة الانتقالية وتعيد شبح دارفور.

محمد خليفة صديق: الحكومة تتعامل مع المشكلات بمبدأ التسكين وبأقل تكلفة
ولم تستبعد مصادر سودانية أن تكون هناك جهات إقليمية متورطة في الأزمتين وتغذية التوترات العرقية والقبلية الراهنة بما يؤدي إلى توسيع نطاق الصراع وصعوبة السيطرة عليه، وتتفجر بؤرة جديدة تنهي الخطوات الإيجابية التي قطعتها السلطة على المستويين الداخلي والخارجي وتتفرغ فقط لإطفاء الحرائق وما ينجم عنها من تداعيات مختلفة.
وأشارت المصادر لـ”العرب” بأصابع الاتهام إلى فلول النظام الرئيس السابق عمر البشير وتحالفاتهم الإقليمية الممتدة مع كل من إريتريا وإثيوبيا، والتي تلتقي حول نقطة واحدة هي شغل مكونات السلطة الحالية بالأزمات، فإذا كانت نجت من مطبات المظاهرات في الخرطوم وتمكنت من تهدئة الأوضاع في غرب دارفور، فثمة بيئة خصبة يمكن توتيرها في الشرق والجنوب قد تصعب السطرة عليها، لأن عوامل انفجارها الكامنة يمكن أن تخرج فوق السطح بسهولة.
وأكد أستاذ العلوم السياسية بجامعة أفريقيا العالمية بالخرطوم محمد خليفة صديق أن الحكومة السودانية لن تستطيع مواجهة الأزمات المتلاحقة في أكثر من بؤرة لأنها في النهاية سلطة انتقالية وتتعامل مع المشكلات بمبدأ التسكين والرغبة في التهدئة العاجلة بأقل تكلفة، ويطغى على تحركاتها الجانب الأمني من دون أن تقدم حلولا جذرية للأزمات.
وأضاف في تصريح لـ”العرب” أن السلطة الحالية تعول على الأجهزة الأمنية النظامية لإخماد الاشتباكات القبلية التي تندلع هنا أو هناك، وتكثف إرسال قواتها إلى المناطق الملتهبة، وتنتهج التهدئة بشكل مؤقت ولا تمتلك استراتيجية للحل الشامل، وما يحدث في الشرق والجنوب، علاوة على الغرب، من السمات المتوقعة سلفا من قبل دوائر أمنية وسياسية قريبة من متابعة الأحداث.
ويؤخذ على الحكومة أنها تترك الأوضاع في مناطق الهامش لتتفاقم وتشتعل الصراعات في أي لحظة، وقد تكررت الحوادث القبلية مرات عديدة على مدار العامين الماضيين، وفي كل المرات يتم التعامل بالأساليب ذاتها، وهو ما أدى مثلا إلى تجذر الأزمة في الشرق.
وأثبت التوجه الرسمي إلى جوبا من أجل المباحثات مع قادة الحركات المسلحة وتوقيع اتفاق سلام مع البعض وصعوبته مع البعض الآخر أنه ليس كافيا لوقف التوترات المتجذرة، والأمر يحتاج إلى منهج مختلف يتكفل بإيجاد حلول حقيقية.
وأصبحت السلطة الانتقالية مطالبة بأن تدخل تغييرات على أسلوب مفاوضات السلام بحيث تولي اهتماما بأصحاب المصلحة دون أن تكون مباحثاتها مع السياسيين فقط، وأن تواجه مطالب أبناء الأقاليم وتقدم الحلول الناجعة لمعالجة مشكلات الفقر والجوع وترسخ حضورها القوي كسلطة تنفيذية وليست كأجهزة أمنية وعسكرية.

أبوبكر مختار داؤود: التهديد الآن في السودان هو انتقال التوترات إلى بؤر جديدة
ويخشى متابعون أن يؤدي استمرار التدهور في الشرق والجنوب إلى تخلي الحركات المسلحة عن اتفاق السلام مع الخرطوم، وهو التحدي الذي يمكن أن يعصف بالثورة ومكتسباتها ويمنح المناوئين لها والخاسرين منها فرصة للانقضاض على السلطة.
وتهدد الإمكانيات الأمنية المحدودة المتوافرة لدى الأجهزة النظامية تماسك السلطة التنفيذية، فمع زيادة التوتر سوف تضطر لأن تدفع بأعداد كبيرة من القوات إلى ولايات الهامش، ما يؤدي إلى المزيد من الاستنزاف لقدراتها، خاصة أن الخرطوم وعددا من المحافظات الأخرى تعاني من مشكلات اقتصادية وأمنية هيكلية ربما تؤدي إلى انفجار الأوضاع في المركز أيضا.
وبات السودان بحاجة إلى دعم إقليمي ودولي كي يتمكن من مواجهة أزمات الهامش المتعاقبة، وأن يكون هذا الدعم لوجيستيا لتطوير الأجهزة النظامية والقوات الشرطية التي بحاجة إلى منهج مختلف في التعامل مع الأزمات المتراكمة والمستجدة، إلى جانب دعم سياسي ضاغط على الأطراف الخارجية التي تعمل على تأجيج النيران في بعض المحافظات.
وشدد المحلل السياسي أبوبكر مختار داؤود على أن المشكلة الأساسية التي تجابهها السلطة الانتقالية أنها لم تعمل على مواجهة فلول النظام السابق بشكل فاعل وتركت جيوبه تتحرك بحرية في محافظات الهامش، ما أدى إلى تنفيذ العديد من المؤامرات التي جرى نسجها مؤخرا والسلطة مفتقرة إلى القدرات السياسية والأمنية التي تمكنها من التعامل معها.
وأوضح في تصريح لـ”العرب” أنها تعالج المطالب المشروعة للمواطنين، تحديدا في ما يتعلق بنظارات البجا في الشرق وهي لم تف بتعهداتها التي قطعتها معهم، ما أوجد حبلا سريا يربط بين التصعيد المفتعل والأزمات الحقيقية، ويظل التهديد الآن هو انتقال التوترات في بعض المناطق إلى بؤر غير مدرجة ضمن الصراع الهامش التقليدية.
ولا يختلف ما دار (ولا يزال) في غرب دارفور عن جنوب كردفان عما يحدث في شرق السودان، لأن المحرك الرئيسي جماعات وقبائل لها ارتباط عضوي بالنظام السابق وقوى خارجية لها مصلحة في تفجير الصراعات، وتعمل على استغلال النزاعات القديمة بين المكونات الاجتماعية أملا في تجديده داخل بيئة رخوة أكثر مما كانت عليه سابقا.
وتبدو الإجراءات التي اتخذتها السلطة الانتقالية أخيرا غير كافية لوقف تمدد الصراع في عدد المناطق الملتهبة، وربما تتفاقم الأزمات وإن هدأت وتيرتها على المدى القريب سوف تظل المهدد الأول أمام الانتقال الديمقراطي، لأن هناك شائعات تنتشر في هذه المناطق تشير إلى أن هناك محاباة من جانب الحكومة لزعماء قبائل يملكون نفوذا داخل السلطة على حساب آخرين.