أتراك وإيرانيون في المهجر: سياسات أنقرة وطهران تحدد مدى الاندماج

ارتفع إثر الانقلاب الفاشل الذي شهدته تركيا في 15 يوليو 2016، عدد الأتراك من طالبي اللجوء والمهاجرين الفارين إلى أوروبا والولايات المتحدة من حملة الاعتقالات والتطهير الواسعة التي شنّها النظام، في خطوة ذكّرت المتابعين بما حصل في إيران إبان الثورة الإسلامية سنة 1979، حين استقبلت العواصم الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية موجات من الإيرانيين، الذين فروا من سطوة السلطة الدينية في بلادهم؛ وكانت ألمانيا الوجهة الرئيسية للأتراك الفارين، باعتبارها البلد التقليدي لهم والذي يتواجد فيه الملايين من الأتراك الذين قصدوا ألمانيا في مطلع ستينات القرن الماضي وشكّلوا رافدا رئيسيا في تشكيل القوة الاقتصادية الألمانية، لكن رغم ذلك، بقي الأتراك منفصلين عن المجتمع الألماني وأي مجتمع آخر هاجروا إليه، خلافا للإيرانيين الذين اندمجوا بشكل كبير في مجتمعاتهم الجديدة.
الأربعاء 2016/08/31
حرية غير مكفولة خلف أسوار إيران

بون (ألمانيا)- تعد ألمانيا أكبر دولة أوروبية حاضنة للمهاجرين الأتراك، الأمر الذي يجعل العلاقة بين تركيا وأوروبا تحكمها في العادة علاقة تركيا بألمانيا. وتقدّر الجالية التركية الألمانية بحوالي 4 ملايين نسمة؛ وهذه الجالية تشكل قضية في بلد مثل ألمانيا، وفي المقابل تضم بريطانيا وألمانيا والولايات المتحدة جالية إيرانية يصل عددها إلى 5 ملايين نسمة، لكنها لا تشكل مفصلا في علاقة إيران بها.

ويرى الساسة الألمان أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ينظر على وجه الخصوص إلى الأتراك الألمان وإلى عموم الأتراك في العالم مهما اختلفت جنسياتهم باعتبارهم رعاياه. وتصاعد الموقف بين ألمانيا وتركيا، مؤخرا، حين أعلن هانز-كريستيان شتروبله، عضو اللجنة المعنية بمراقبة أجهزة الاستخبارات الدولية في البوندستاغ الألماني أنّ هناك “أنشطة سرية لا تصدق للاستخبارات التركية في مراقبة الأتراك”.

الأتراك في الشتات

يؤثّر الأتراك خاصة على السياسة الألمانية وعلى علاقة تركيا بألمانيا. ولا توجد أرقام نهائية عن حجم التحويلات المالية للأتراك المقيمين في ألمانيا إلى ذويهم في تركيا وبالعكس، كما لا تتوفر معلومات منشورة عن حجم الاستثمارات الخاصة بين البلدين على مستوى رأس المال الخاص. وبعد محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا، بات الموضوع تشد أنظار الرأي العام بشكل متزايد. يعمل الأتراك المقيمون في ألمانيا، كعمال في القطاع الخاص وفي قطاع الخدمات وخاصة المطاعم. وفيما يتجنب رأس المال الألماني الاستثمار في تركيا، يستثمر عدد كبير من أصحاب رؤوس الأموال الأتراك في ألمانيا، كما يستثمرون مدّخراتهم في تركيا.

وتشير إحصائيات معهد سياسات الهجرة إلى أنّ نحو ثلثي الأتراك العاملين في ألمانيا، يملكون بيوتا ومباني خاصة بهم في قراهم ومدنهم التركية التي هاجروا منها إلى ألمانيا، كما أنّ أغلب المتقاعدين الأتراك في ألمانيا وعبر العالم، يفضّلون العودة إلى تركيا بعد مرحلة التقاعد، مستفيدين من فروق العملة ليعيشوا حياة مرفهة في بلدهم برواتب تقاعدية كبيرة مقارنة بمستوى الدخل الفردي التركي.

تقارير معهد سياسات الهجرة تشير إلى أن عام 2010 يعد نقطة بداية في تحول مسار الهجرة، حيث بدأ الكثير من الأتراك عبر العالم بالعودة إلى تركيا لتوظيف مدخراتهم

الملفت للنظر أنّ المهاجرين الأتراك لا يعتبرون أنفسهم ألمانا أو أميركيين أو فرنسيين رغم اكتسابهم الجنسية في بلد المهجر، بل يُعرّفون أنفسهم باعتبارهم أتراكا مقيمين في بلدان الشتات، وهذا يسبب لهم غالبا مشكلات كبرى في الاندماج في بلدان الهجرة. وتشير تقارير معهد سياسات الهجرة إلى أن عام 2010 يعد نقطة بداية في تحول مسار الهجرة، حيث بدأ الكثير من الأتراك عبر العالم بالعودة إلى تركيا لتوظيف مدخراتهم في “الربيع الاقتصادي” الذي تحقق في تلك الفترة في تركيا.

من الناحية الاجتماعية، يلحظ المراقب بسهولة أنّ 90 في المئة من الأتراك المهاجرين عبر العالم هم أبناء المناطق الريفية، ويهاجرون بحثا عن فرص العمل والأجور المرتفعة، بمعنى أنه لا وجود لقضية سياسية تدفعهم إلى الهجرة. وفي ألمانيا يشكل أبناء الأناضول نحو 70 في المئة من الجالية التركية الحاصلة على الجنسية الألمانية أو المقيمة في هذا البلد.

وهذا يفسر ظاهرة الانتماء القلق لهم، فالريفيون عموما والفلاّحون بوجه خاص أكثر ارتباطا بموطنهم وأرضهم من سكان الحواضر والمدن، ولعل هذا ما يفسر أيضا قلة عدد حملة الشهادات وذوي الكفاءات بين المهاجرين الأتراك إلى ألمانيا خاصة والعالم بوجه عام. وتحدّثت الصحافية التركية المقيمة في ألمانيا نازك ي إلى “العرب”، مؤكدة بهمس خجول أنّ “أبناء المتروبوليتان التركية يأنفون من الهجرة إلى أوروبا، ويعدّون بلدهم أرفع مكانا من المصير الذي يلقاه التركي في بلدان أوروبا وخاصة ألمانيا”. ورغم أن نازك تعمل في شبكة تلفزية ألمانية مرموقة وتتقاضى أجرا يفوق مثيله التركي بخمسة أضعاف على الأقل، إلا أنها تؤكد رغبتها في العودة إلى بلدها، بمجرّد أن “تتراجع سلطة الإسلاميين في أنقرة، وتعود تركيا إلى محيطها الأوروبي كشريك وليس كخصم”، حسب وصفها.

الإيرانيون في الشتات

في المقابل، يهاجر من الإيرانيين في الغالب سكان الحواضر والمدن، ويقدر عدد الإيرانيين في الهجرة بـ4 إلى 5 ملايين مهاجر، يشكل سكان المدن نحو 80 بالمئة منهم. ويقدّر عدد الإيرانيين المقيمين في الولايات المتحدة الأميركية بنحو مليوني مهاجر يتركّزون غالبا في مناطق الساحل الغربي، سان فرانسيسكو وكاليفورنيا، علاوة على ولايات ومدن أميركية أخرى.

وفي المملكة المتحدة، يقدّر عدد المقيمين رسميا منهم بأكثر من 100 ألف، فيما يقدّر عدد المقيمين بشكل غير قانوني بنحو 80 ألفا، أما في ألمانيا فيبلغ عددهم نحو 120 ألفا. وعلى وجه العموم لا توجد إحصائيات نهائية بخصوص عددهم، لكن حركة الهجرة المليونية من الشرق الأوسط، شملتهم ابتداء من عام 2014 لا سيما بعد أن أنهكت العقوبات الاقتصادية الغربية البلد وسحقت الريال الإيراني ورفعت معدلات التضخم بمعدل 60 في المئة، فبدأ الآلاف منهم وأغلبهم من سكان ضواحي المدن والأرياف الفقيرة يتّجهون إلى أوروبا وعلى وجه الخصوص إلى ألمانيا بحثا عن ملاذ.

د. محمد. غ الطبيب الإيراني المقيم بمدينة كولونيا بألمانيا تحدث لـ”العرب” شارحا أنّ “حركة الهجرة التي جرت بعد عام 1979 شملت أصحاب رؤوس الأموال وذوي الشهادات العليا، وأبناء الطبقة الوسطى عموما، الذين هاجروا هم وأسرهم وأموالهم، واستقروا في بلاد الغربة واستثمروا وبنوا مستقبلهم بعيدا عن بلد سلبه الآخوندها (الملالي)، إنها هجرة سياسية طبقية بمعنى الكلمة”.

يهاجر من الإيرانيين في الغالب سكان الحواضر والمدن، ويقدر عدد الإيرانيين في الهجرة بـ4 إلى 5 ملايين مهاجر، يشكل سكان المدن نحو 80 بالمئة منهم

وعلى عكس الأتراك “يرفض الإيرانيون العودة إلى بلدهم ويندمجون أكثر في بلدان المهجر حد الانسلاخ عن مجتمعهم، في رد فعل على سياسة رجال الدين القامعة للحريات الاجتماعية في إيران، فمثلا النساء يشدّدن على رفض الحجاب والتقاليد الإسلامية”، كما أكد على ذلك في تصريح لـ”العرب” الصحافي الإيراني الشاب ياسر. ش الذي قدم إلى ألمانيا عام 2009 بعد وقائع الثورة الخضراء في إيران.

أما عن الأموال وحركتها، فالإيرانيون هم أقل المهاجرين تحويلا لأموالهم إلى بلدهم أو إلى أقاربهم. وفي هذا السياق أشار تقرير صدر عن مؤسسة “إيران برس سيرفس” غير الرسمية عام 2006 إلى أن الإيرانيين المهاجرين قد استثمروا من 200 إلى 400 مليار دولار في أوروبا والصين والولايات المتحدة الأميركية. وقدّر التقرير حجم استثمار رؤوس الأموال الإيرانية المهاجرة عام 2006 في دبي بنحو 200 مليار دولار، فيما قدّر نفس التقرير حجم التحويلات التي أرسلها المهاجرون إلى أسرهم في إيران بحوالات غير رسمية بنحو ملياري دولار. وهذه الأرقام تبقى تقديرات تحتاج إلى تأكيد من جهة محايدة ومختصة.

تقول آمال ف المتخصصة في شؤون الرعاية والتعليم في مراكز إيواء اللاجئين بمدينة كوبلنز، إنه منذ عام 2014 امتلأت مراكز إيواء اللاجئين في ألمانيا خاصة بمهاجرين قدموا أنفسهم على أنّهم “إيرانيون مسيحيون أو زرادشتيون هربوا من إيران التي تضطهدهم، أو مثليون ومثليات تحاكمهم إيران بالإعدام، فطلبوا اللجوء السياسي في ألمانيا حفاظا على حياتهم”.

وتشير آمال في تصريحات لـ”العرب” إلى أنّ أغلب هذه الادعاءات تكون كاذبة لتأمين الحصول على لجوء سياسي، ولكن ما لم تلحظه آمال، أنّ الكثير من هؤلاء المهاجرين ليسوا إيرانيين في حقيقة الأمر، بل هم أفغان أو طاجيك، اتخذوا من هذه الذريعة وسيلة للحصول على لجوء سياسي في ألمانيا لا سيما أنهم يتكلمون الفارسية، لكن من يتقن هذه اللغة يلحظ ببساطة غلظة لهجتهم التي تدل على أصولهم.

كاتب عراقي

12