أبوبكر البغدادي نجم شباك الدعاية الجهادية الجديد

أمر ما داخل تنظيم داعش أقلق أبوبكر البغدادي قائد دولة الخلافة المزعومة ودفعه بقوة لمناهضته ومقاومته بسلاح غير تقليدي. لعله النزاع على القيادة ومحاولات التخلص منه وتحميله مسؤولية الفشل والهزائم وضياع حلم الدولة بسبب سوء إدارته وقلة خبرته وتشدده.
وتبدو أزمة قادة التنظيم الحاليين غير منحصرة في الهزيمة في آخر معاقل التنظيم في سوريا، حيث ظل مستعدا لقبول الخسارة ومهيأ لها بعد أن فقد غالبية أوراق دعمه على الأرض، كما أن الهزائم على مدى سنوات لم تدفع البغدادي للمجازفة بالظهور الإعلامي.
انعكس ذلك على طبيعة ما طرحه البغدادي ورسائل كلمته والطريقة التي تحدث بها؛ فقد كان هدف الظهور المفاجئ خلق دعاية جديدة ومختلفة للبغدادي نفسه. إذ بعد انهيار صورته وجاذبيته كخليفة ورئيس لدولة مفترضة لها سيطرة واسعة على الأرض وتأتيه الوفود من جميع أنحاء العالم لمبايعته كان لا بد من خلق صورة دعائية بديلة قادرة على تشغيل ماكينة الاستقطاب التي توقفت بسقوط الخلافة وتراجع شعبية رمزها الأول حتى في أوساط تنظيمه وليس فقط داخل الوسط الجهادي.
البغدادي، وفي مقطع الفيديو الذي لم تتجاوز مدته 18 دقيقة، هدّد بأن داعش سيثأر لقتلاه وأسراه، معلنا عن تنفيذ 92 عملية في ثماني دول. ولم يجد أفضل من نموذج أسامة بن لادن الدعائي عبر استحضار كافة مكونات الصورة وخلفياتها.
أجزاء الصورة
إن ما يصنعه الظهور الإعلامي للرجل المطلوب الأول لأجهزة الأمن والمخابرات في العالم من صدى واسع وتغطية إعلامية عالمية لا يشمل فقط تفسير وتأويل ورصد ما تنطوي عليه الكلمات والعبارات والمصطلحات، بل يدفع العالم إلى التنقيب عن الرسائل المشفرة وراء هزات رأسه وإيماءات وجهه ونقوش وسائده ودلالات إشارات يديه وطريقة جلوسه.
الضجة الإعلامية الهائلة هي الهدف الذي بحث عنه البغدادي وعثر عليه لصد الانشقاقات وإضعاف حركة المتمردين ضده داخل التنظيم قبل امتصاص الهزائم واحتوائها، وصار لديه سلاح بديل عن سلاح نفوذه كخليفة مسيطر من موقع قوة يملك المال والسلطة وحشود الأتباع على الأرض والتي حمته من الانقلاب ضده قبل الوصول لمراحل الهزائم الكبرى، وهو سلاح تلهف العالم وانتظاره للظهور الجديد للرجل الأكثر خطورة، وما يصنعه ذلك من هالة ترسم صورة البطل الجديد للجهاديين.
حقق الإعلام العالمي غاية البغدادي الأولى ولا شك أنه الآن يجهز لموعد ومحتوى الظهور التالي طاويا مرحلة الخليفة المبايَع، ومتقمصا دور المسؤول الأول عن الاستقطاب والتجنيد الذي يذهب بنفسه للمنضمين الجدد ويذكرهم ويثني عليهم بعد أن كانوا هم من يفدون إليه بعد خطبته في الموصل في العام 2014.
اعتراف واستثمار
وهكذا اختلف الوضع خلال خمس سنوات، فلم تعد الرسالة تعالوا إلى أرض الخلافة وبايعوا، إنما تكاثروا في أراضيكم واضربوا في كافة بلاد العالم ونحن من نأتي إليكم.
ظهر الرجل حريصا على صورته كقائد يقدر تضحيات رفاقه ويذكرهم بالاسم ويمنحهم قداسة تحاول أن تتشبه ببطولات الجيل الأول من الصحابة؛ ففي سرده لأحداث معركة الباغوز يستدعي المتلقون من الشباب المبهور بالفكرة الجهادية أحداث معركة مؤتة بين المسلمين والروم ذات التأثير الكبير في وعي معتنقي المنهج الجهادي، وتشير وقائعها إلى أنه كلما سقط قائد أخذ الراية آخر حتى انتهت عند خالد بن الوليد الذي انسحب بالجيش وعد انسحابه تكتيكا عسكريا بارعا للإفلات من هزيمة شاملة مروعة.
اعترف البغدادي هنا أن خسارة المعركة في الباغوز ليست نهاية الحرب إنما هي مجرد تكتيك عسكري وميداني للعودة من جديد بخطط مختلفة وأكثر تطورا تتناسب مع وضعية التنظيم في هذه المرحلة، وقبل ذلك يشدد عبر تشبيه قادة معركة الباغوز بقادة معركة مؤتة على مكانة قيادات التنظيم الدينية وما يعنون له شخصيا، ما يفتح المجال لما يلح عليه الآن وحاجته لقيادات بديلة تعوضه ما فقده هناك من قيادات وتدعمه في مواجهة حركة التمرد والانشقاقات داخل التنظيم.
غاية البغدادي من الظهور يحققها له الإعلام العالمي الآن، ولا شك أنه بدأ يجهز لموعد ومحتوى ظهوره التالي، طاويا مرحلة الخليفة المبايَع، ومتقمصا دور المسؤول الأول عن الاستقطاب والتجنيد الذي يذهب بنفسه للمنضمين الجدد، ويذكرهم ويثني عليهم بعد أن كانوا هم من يفدون إليه بعد خطبته في الموصل في العام 2014
رسم استراتيجية تنظيم داعش الجديدة عبر رسائل ظهوره الأخير؛ ومفادها الاعتماد على ركيزة الانتقال للحرب المفتوحة بين ما أسماه أمة الصليب وأمة المسلمين، ما يعني أن دولته المزعومة السابقة في سوريا والعراق لم تعد هي التي تؤمن تعبئة عشرات الآلاف من المبايعين الجدد مع عائلاتهم وذويهم، إنما العمل على خلق واقع طائفي متصارع في عدد من المناطق المرشحة لهذا المصير حول العالم، لتصبح بيئة مثالية لنمو التنظيم وتزايد نفوذه.
يستثمر زعيم داعش في تفجيرات كنائس سريلانكا والهجمات الدموية ضد المسيحيين هناك وتأكيده أنها كانت ثأرا لهزائم التنظيم في الشام وتحريضه على هجمات مماثلة، يعني أن تعويض خسارة سيطرته على الأرض في سوريا سوف يتحقق بإشعال صراعات طائفية تجعل داعش مطلوبا لتسلم قيادتها بعد تهيئة مناخها وجعل أعداد كبيرة من المسلمين في مناطق كثيرة من العالم يعتقدون أن البغدادي وتنظيمه هم مخلصوهم والمدافعون عنهم وعن دينهم في مواجهة الظلم والاضطهاد الديني.
الخط الثاني هو السعي نحو استثمار الاضطرابات السياسية والاجتماعية في المنطقة العربية، ولذلك عرض خلال شريطه المصور على المحتجين في الجزائر والسودان مزايا التغيير المسلح التي تحميهم من وجهة نظره وتغازل لديهم هواجس استبدال الطواغيت بطواغيت آخرين وعدم تتويج النضال السلمي بتغيير جوهري وفعلي في مشهد السلطة.
يبث البغدادي دفعة معنوية لدى قادة السلفية الجهادية المتوارين في خلفيات مشهدي الاحتجاجات الشعبية في السودان والجزائر، ليمتلكوا الجرأة والحماسة للتقدم والتصدر بغرض تحويل المعادلة من صراع ضد دكتاتورية وحكم ظالم فاسد إلى صراع بين علمانية وإسلام ودفاع عن الدين والشريعة.
رسائل المطلوبين

كانت نظريته مكشوفة تماما، في ربط نفسه وتنظيمه بتنظيمات سابقة عالقة في الذهن. لقد طرح الأسلوب المثالي للتغيير عبر السيف والجهاد ليصبح رقم داعش هو الأول والمطلوب شعبيا وميدانيا، محاولا خلق مساحات جديدة حول العالم لأنشطة داعش في أفريقيا وآسيا وخارج سوريا والعراق، وصناعة نموذج جديد بديل عن السيطرة على الأرض يتمثل في الصراع المفتوح بين أمة الإسلام وأمة الصليب، وصدر نفسه، صوتا وصورة، كقائم بالدعاية المباشرة لهذا التحول، وكفيل بأن يضعف حجج المنشقين على قيادته ممن يروجون لفشله وتسببه في انهيار دولة الخلافة خلال زمن قياسي.
وقد علقت الأسوشيتيد برس مقارنة ما بين ظهور البغدادي وظهور عدد من قادة التنظيمات الإرهابية السابقين، واصفة إياهم بأنهم كثيرا ما يوجهون تهديدات من مخابئهم ويحتفلون بانتصارهم في الهجمات الإرهابية التي يخططون لها، لكن لم تُكتب النهاية بعد لحياة مثل هؤلاء الرجال الذين يرتكبون العديد من الجرائم التي يذهب ضحاياها المزيد من القتلى.
بينما ذهب كولين كلارك الباحث في مركز صوفان إلى “أن الرسائل الصوتية والمرئية لهؤلاء القادة هي طريقتهم في جمع وتطمين أتباع الجماعة الذين يجب عليهم الاستمرار فيها. وفي بعض الحالات، يمكن أن تهدف هذه الرسائل إلى تحفيز المؤيدين لشن هجمات، إما كأفراد وإما كمجموعات صغيرة”.
وقد عكس البغدادي في آخر فيديو له صورة لبن لادن، وهو يجلس واضعا بجواره بندقية مستندة إلى الحائط المجاور له. بن لادن الذي ظهر بعد وقت من تفجيرات 11 سبتمبر في مقطع فيديو ليقول إن الله قد قصف أميركا في أضعف نقطة، ودمر أحد أبنيتها المرموقة”.
قبل أن تبث واشنطن مقطع فيديو ظهر فيه بن لادن وهو يتحدث مع زملائه في أفغانستان يناقش تلك الهجمات بمزيد من التفاصيل. واليوم وبعد سنوات، يقف ابنه حمزة بن لادن في أوج المعركة بين القوى العالمية. لقد ظهر في حوالي عشرة مقاطع لتنظيم القاعدة، حيث ألقى خطابات حول كل شيء من الحرب في سوريا إلى زيارة الرئيس دونالد ترامب إلى السعودية، بأسلوب يتسم بالرمزية، يشبه إلى حد كبير أسلوب أبيه.
أما أيمن الظواهري زعيم تنظيم القاعدة الحالي وخليفة بن لادن فقد أصدر القليل من البيانات الصوتية أو المرئية، والتي ظهر فيها في الغالب مرتديا ثوبه الأبيض وعمامته. وقبله كان أبومصعب الزرقاوي قائد تنظيم القاعدة في العراق، الذي برز إبان الغزو الأميركي للعراق عام 2003. متبنيا العديد من الهجمات ضد التحالف الذي تقوده واشنطن وأصدر مجموعة من مقاطع فيديو شنيعة تُظهر عمليات قطع رؤوس الأميركيين والبريطانيين.
لم يعرف أحد من أين بث البغدادي ذلك الفيديو الذي ظهر فيه، لكن رئيس الوزراء العراقي عادل عبدالمهدي أكد أن الفيديو تم تصويره في منطقة نائية، وأضاف خلال مؤتمر صحافي أثناء زيارة للعاصمة الألمانية برلين أنه لا يستطيع إعطاء معلومات استخبارية في الوقت الراهن.
واليوم يظهر البغدادي بعد أن كان قد بقي القليل على قتله بيد أحد عناصر تنظيمه المتمردين عليه أو خلال المعارك الأخيرة في سوريا، لكنه لجأ إلى السلاح الأخير الذي انتشله من هزيمة داخل تنظيمه وخارجه، وأظهر المتمردين الهاربين إلى تركيا وشمال غرب سوريا كأنهم قلة خائنة دون تأثير، كما واجه محاربي التنظيم وخصومه بصدمة ظهور بن لادن جديد يوجه حربا متنقلة حول العالم ويظهر كنجم إعلامي جاذب للأضواء والكاميرات.