آرغو.. شهادة سينمائية عن "المنجزات الأولى" للثورة الإيرانية

فيلم حظي بنجاح مشهود فنيا ودراميا وعلى صعيد البروباغندا الأميركية ضد إيران أيضا، لكنه من جهة أخرى حمل وثيقة مهمة في مسار التاريخ السياسي وتاريخ العلاقة بين البلدين.
السبت 2019/03/09
هروب من الغضب الإيراني

لا يمكن أن تغيب عن الذاكرة الأميركية ولا الإيرانية قصة الرهائن الأميركان الذين احتجزوا إبّان الثورة على الشاه، محمد رضا بهلوي، في العام 1979. فكما أن الثورة الإيرانية هي بمثابة تحوّل في تاريخ الشعب الإيراني في ظل صعود موجة الحكم الثيوقراطية المتشددة وتمكنها من تسلم مقاليد الحكم بعد إسقاط نظام الشاه محمد رضا بهولي، الحليف الأزلي للغرب، فكذلك تعد تراجيديا الرهائن الأميركيين واحدة من أهم الأحداث التي ظلت حاضرة حتى الساعة في الذهن الجمعي الأميركي.

الإيرانيون أو على الأقل بدفع من نظامهم الحاكم يخرجون للتظاهر في كل عام إحياء لذكرى الثورة كما لذكرى حادثة السفارة الأميركية، بينما يفخر الأميركيون بجهازهم الاستخباري السري الذي توصل إلى تنفيذ عملية محكمة وجريئة ودقيقة وغير مسبوقة. وفق هذه المقدمة سوف تتكامل الصورة إلى حد كبير من خلال فيلم آرغو للمخرج بن أفليك الذي عرض للمرة الأولى في العام 2012، ونال الكثير من الجوائز والأوسكارات والإشادات، فضلا عما حققه من إيرادت أكدت قيمته الفنية.

في البدء قدّم الفيلم توطئة لأنظمة الحكم التي توالت على إيران وصولا إلى الشاه، من خلال لقطات رسوم متحركة ومقاطع وثائقية، وصولا إلى قيام الثورة الإيرانية ونزول الخميني وأتباعه من الطائرة على متن رحلة للخطوط الفرنسية.

خلال ذلك كانت هنالك حقب استثنائية في التاريخ الإيراني التي مر بها الفيلم ومنها ثورة محمد مصدق (ولد عام 1880 وتوفي عام 1967) الذي أقدم على تأميم شركات النفط البريطانية وأوشك على عزل الشاه عندما كان رئيسا للوزراء، بين 1951 و1953، حيث التفت من حوله الجماهير الإيرانية، لكن الولايات المتحدة لم يكن لها أن تتخلّى عن حليفها الشاه، فانتصرت له لينتهي الأمر بمصدق إلى السجن بتهمة الخيانة ثم الإقامة الجبرية حتى وفاته.

ما قبل الثورة

قصة مصدق قد تبدو وكأنها تمهيد مبكر للثورة ضد الشاه، ولكن في هذه المرة لم تكن هنالك فرصة لإعادته سوى إنقاذه شخصيا وأسرته بانتقاله إلى الولايات المتحدة وطلب اللجوء هناك، هذا التحوّل المفصلي وكما هي الحال مع الثورات المحملة بالراديكالية وبنزعة الانتقام وبعد نصب المشانق وفتح السجون للقصاص من أركان حكم الشاه، لم يكن يرضي تلك الجماهير المندفعة كالسيل سوى رأس الشاه شخصيا بمطالبة الولايات المتحدة بإعادته، لكن ذلك لم ولن يحصل، وبالتالي وقع الهجوم الانتقامي على السفارة الأميركية في طهران.

مشاهد الهجوم على السفارة من قبل الجماهير الغاضبة والفوضوية، تشكّل لوحدها علامة فارقة ومميزة في هذا الفيلم، إذ تم تصويرها بحرفية عالية وأداء متقن عندما كان أركان السفارة يسابقون الزمن بتحطيم أجهزة الاتصال وإتلاف الوثائق، فيما كانت الحشود تحطم النوافذ والأبواب ليجد العشرات من الدبلوماسيين الأميركان أنفسهم بين أيدي تلك الحشود التي تشتعل في داخلها نزعة الانتقام.

الفيلم وفر مساحة كبيرة للمغامرة بغاية قهر الخصم الإيراني
الفيلم وفر مساحة كبيرة للمغامرة بغاية قهر الخصم الإيراني

من بين أولئك الدبلوماسيين هنالك ستة هم محور هذا الفيلم المأخوذ من وثائق المخابرات المركزية الأميركية بعد الإفراج عن تلك الملفات، فضلا عن قصة توني منديز الذي صار بطلا قوميا وهو عميل وكالة المخابرات المركزية الأميركية “سي.آي.إيه”، الذي قاد ونفّذ عملية إجلاء الرهائن في عملية استخبارية جريئة.

وفق هذه الخلفية انقسم السرد في الفيلم إلى قسمين. الأول هو ما يجري في أوساط الإدارة الأميركية من اجتماعات متواصلة لمراقبة مستجدات الوضع الإيراني، والأهم متابعة قضية الرهائن. والقسم الثاني هو يوميات الرهائن أنفسهم وقد وجدوا ملاذا لهم في داخل السفارة الكندية في طهران، وضاع أثرهم بالنسبة للسلطات الإيرانية التي ظلت تقتفيه حتى اللحظة الأخيرة.

بيئات متناقضة

ومن وجهة نظر كاتب السيناريو والمخرج صرنا نتنقل بين بيئتين متناقضتين، حيث يقرر توني منديز خوض عملية استخبارية لإنقاذ الرهائن الستة.

عمد المخرج بن أفليك في جميع المشاهد تقريبا، وخاصة تلك التي سبقت العملية، على التركيز على نقاط الذروة والأكثر توترا، مما منح الفيلم مساحة كبيرة للمغامرة وإشباع الطابع البوليسي فيه وتمجيد البطولات الفردية وهي غاية في حد ذاتها لجهة قهر الخصم الإيراني وتحديه وخداعه في عقر داره.

تدخلت مؤسسات هوليوود بقوة في هذا الفيلم بالتنسيق مع المخابرات الأميركية لتبني مشروع وهمي لإنجاز فيلم كندي من داخل إيران، وكان على فريق العمل الذي يقوده بن أفليك فضلا عن الدبلوماسيين الستة أن يقوموا بمسح أماكن التصوير تحت سمع السلطات الإيرانية وبصرها وتحت إشرافها.

وكانت البداية من إعداد ملف متكامل لفيلم مغامرات من أفلام الخيال العلمي يحمل اسم آرغو ويجري بالتنسيق مع جون تشامبرز( الممثل جون كودمان)، أحد العاملين في هوليوود والذي سبق له وأن تعاون مع المخابرات الأميركية، وبإشراف أحد المنتجين تكتمل خطة الفيلم الوهمي.

واقعيا كان مستغربا أن توفر السلطات الإيرانية، وهي التي تخوض تصفياتها الدامية ضد بقايا حكم الشاه وضد خصومها الآخرين من جميع الجهات، إقليمية ودولية، فرصة تصوير فيلم وتعطي موافقات وما إلى ذلك، لكننا سنعود إلى فرضية أن السينما قد تسهم في الدعاية الإيجابية لصالح النظام الناشئ ووفق هذه الخديعة سارت الأحداث.

انتقل منديز (المخرج الممثل بن أفليك) إلى طهران عبر إسطنبول ووصل إلى طهران حاملا وثائق السفر وبطاقات الهوية المزيفة التي تخص الدبلوماسيين الستة على أساس أنهم فريق عمل سينمائي، هنا كان التحدي المكاني قضية أساسية. إذ كيف وأين سوف يتم التصوير وأي عناصر مكانية يمكن توفيرها، ويبدو أن بعض المناطق في إسطنبول كانت مناسبة ومشابهة لما هي عليه في إيران، وهي نقطة نجاح تحسب لصالح الفيلم إذ بدت الأحداث، بما فيها المظاهرات الصاخبة وحتى الهجوم على مبنى السفارة مقنعة تماما.

وفي وسط هذا المسار تكوّنت صورتان نمطيتان ما بين الشخصية الإيرانية والأميركية، وهما وجها لوجه، ولأن الدعاية والدعاية المضادة هما سلاحا الطرفين لم يكن متوقعا أن تظهر الشخصيات الإيرانية، وخاصة رجال البوليس في المطار وفي غيره من الفضاءات بغير تلك الصورة من العجرفة والوحشية والعدوانية، لاسيما وأن التجييش الشعبي كان في خلفية تلك الأحداث المتصاعدة ومحورها الأساس هو المطالبة باسترداد الشاه وأن الولايات المتحدة متواطئة معه، وبالتالي فإنها تحسب على أنها ضد الثورة.

الهروب من إيران

بن أفليك ركز على نقاط الذروة ما منح الفيلم مساحة للمغامرة وإشباع الطابع البوليسي وتمجيد البطولة الفردية
بن أفليك ركز على نقاط الذروة ما منح الفيلم مساحة للمغامرة وإشباع الطابع البوليسي وتمجيد البطولة الفردية

ولعل المفصل الأساسي في الفيلم والأكثر درامية هو مرحلة الإعداد لتهريب الدبلوماسيين الستة الذين وجدوا أنفسهم في مواجهة أقدراهم في مغامرة خطيرة لا يعرف أحد مدى نجاحها، وبالطبع فإن تحركات منديز، الذي حمل اسم كيفن هاركنس، تجري بإشراف المخابرات ورئاسة الأركان وعلم الرئيس الأميركي جيمي كارتر شخصيا.

في ما يتعلق بالبناء السردي للفيلم فقد لاحظنا أن نموّ الأحداث كان مرتبطا بقدرة منديز والدبلوماسيين الستة على اجتياز العقبات وخاصة غير المتوقع منها، ففيما انطلت الخدعة على الإيرانيين واقتنعوا أن هذا هو فريق عمل سينمائي ومنحوه التراخيص للكشف عن المواقع، فإن تعميق مسار السرد الفيلمي استوجب أكثر من حبكة ثانوية ومنها مثلا المواجهة غير المتوقعة التي تقع بين فريق العمل وبين الجمهور في داخل البازار، والتي كادت أن تؤدي بهم إلى كارثة لولا هروبهم في اللحظات الأخيرة.

في المقابل أيضا، انطلق منديز بالدبلوماسيين وكل منهم يحمل اسما مزيفا على متن باص صغير ليخترق مظاهرة صاخبة وغاضبة تشتم الولايات المتحدة، وتطالب بالانتقام حيث كان متوقعا في أي لحظة أن يتم إخراجهم من السيارة والإيقاع بهم.

هذه الحبكات الثانوية أجاد كاتب السيناريو كريس تيريو بثّها في مفاصل الفيلم، ليتوّجها في مشاهد الدخول إلى المطار واجتياز مراحل التفتيش والتدقيق في الهويات والمواجهة الصاخبة مع ثوري مصاب، بما يشبه حالة هستيرية من الصراع والتشكيك الفوضوي في الفريق.

الإثارة الأميركية

ما قبل ذلك كانت نقطة التحول، في ما قبل اللحظة الأخيرة للسفر، هي قرار السلطات الأميركية إلغاء العملية ومطالبة منديز بالعودة سريعا، وذلك حفاظا على سلامة الرهائن ولأن السلطات الأميركية قررت اعتماد خطة بديل أخرى، بشن عملية عسكرية مباغتة.

لا شك أن هذه الحبكة الثانوية والتحول غير المتوقع وجهت صفعة شديدة لخطة منديز الذي أوشك على الوصول إلى نتائج حاسمة ونهائية، لكنه وبعد طول تفكير يقّرر المضي في العملية حتى ولو لم تكن حاصلة على تفويض من الحكومة، وهنا يجري تدارك الموقف في اللحظة الأخيرة من طرف السلطات الأميركية في سلسلة مشاهد شديدة التوتر.

ولعل من المشاهد الطريفة هي تشغيل السلطات الإيرانية لعدد كبير من الأطفال والنساء، كانت كل مهمتهم جمع الأوراق الرسمية المفرومة والمقطّعة الخاصة بالسفارة ولصقها أجزاء مع بعضها حتى استطاعوا في اللحظات الأخيرة الحصول على صور الدبلوماسيين المختفين لتجري مهاجمة السفارة الكندية، حيث لن تجد السلطان الإيرانية أثرا لهم.

فيلم ذو طابع وثائقي لاعتماده على وثائق حقيقية ووقائع عاشها أناس حقيقيون وليست من نسج الخيال
فيلم ذو طابع وثائقي لاعتماده على وثائق حقيقية ووقائع عاشها أناس حقيقيون وليست من نسج الخيال

وفي إطار مشاهد الحركة ومع التصعيد الدرامي وحبس الأنفاس، يعبر الفريق بوابات المطار تباعا وفي اللحظة الأخيرة يلتحقون بالطائرة، لكن في تلك اللحظة يكون الحرس الثوري قد توصل إلى أن الدبلوماسيين الستة قد جرى تهريبهم على متن رحلة الخطوط السويسرية، ويجري ذلك ببراعة ما بين سيارات السلطات التي أسرعت باتجاه الطائرة، وبين الطائرة التي توشك على الإقلاع لتقلع بالفعل في اللحظات الأخيرة بعد سلسلة من مشاهد تقطع الأنفاس.

لا شك أن الفيلم حظي بنجاح مشهود فنيا ودراميا وعلى صعيد البروباغندا الأميركية ضد إيران أيضا، لكنه من جهة أخرى حمل وثيقة مهمة في مسار التاريخ السياسي وتاريخ العلاقة بين البلدين وكان تغطية حقيقية لقصة شغلت العالم ولا تزال تستعاد ذكراها في شهر نوفمبر من كل عام حيث تم اقتحام السفارة الأميركية في اليوم الرابع من ذلك الشهر من العام 1979 لتستمر الأزمة سجالا لعدة سنوات بعد ذلك فيما يحتفي الطرفان بذكراها كل على طريقته.

حقق الفيلم نجاحا تجاريا ملحوظا، وكانت كلفة إنتاجه أكثر من 40 مليون دولار، فيما حقق إيرادات زادت على 200 مليون دولار.

في المقابل حظي بترشيحات لجوائز عدة وحصد بالفعل على الكثير من الجوائز أهمها، جائزة غولدن غلوب، حيث حاز على جوائز أحسن تصوير وأحسن إخراج وأحسن ممثل مساعد. أما على صعيد جواز الأوسكار فقد حصد ثلاثا منها وذلك في دورتها 85 وهي جوائز أحسن تصوير وأحسن سيناريو وأحسن مونتاج، كما حاز على جوائز عدة من الأكاديمية البريطانية للسينما في دورتها 66 وهي جائزة أحسن فيلم وأحسن مونتاج وأحسن إخراج. وكان ملفتا إلى النظر واستثنائيا في تاريخ جوائز الأوسكار أن تقوم ميشيل أوباما، زوجة الرئيس الأميركي السابق باراك اوباما، بالإعلان من البيت الأبيض عن فوز الفيلم بجوائز الأوسكار.

وعلى الرغم من قيمة الفيلم الفنية وإتقانه، بناء وموضوعا، ورغم الاهتمام النقدي الواسع الذي حظي به إلا أن هنالك انتقادات وجّهت له، ومنها تضخيم مساحة المغامرة والخطر ومشاهد حبس الأنفاس.

من جهة أخرى فإن واحدة من أهم ميزات هذا الفيلم هي كونه ذا طابع وثائقي لجهة اعتماده على وثائق حقيقية ووقائع عاشها أناس حقيقيون وليست من نسج الخيال، ولهذه الأسباب اعترضت كل من بريطانيا ونيوزيلندا على إغفالهما من الفيلم، بل والادعاء أن سفارتي البلدين رفضتا استقبال الدبلوماسيين الأميركان، بينما الحقيقة أن موقع السفارة الكندية ساعد أكثر من غيره من الأماكن في إخفاء الدبلوماسيين، ومع ذلك بقيت أصداء الموقف الكندي حاضرة في وسائل الإعلام الأميركية وأوساط السياسيين لوقت طويل ثناء وعرفانا لموقفهم الشجاع في إنقاذ الدبلوماسيين في واقعة لا يمكن أن تُنسى.

16