آخر الحروب وآخر الأوهام

كان بوسع الجميع أن يدرك حجم الإفلاس في موسكو، منذ اللحظات الأولى التي دفعت الكرملين إلى التلويح بالقوة النووية.
الاثنين 2022/10/31
حتى الأكاذيب لم تعد أكاذيب لائقة

الحروب تندلع. وفي الواقع، فإن تاريخ البشرية هو، على وجه من وجوهه، تاريخ حروب. ولكن الحرب الروسية في أوكرانيا سوف تكون واحدة من آخر الحروب، إن لم تكن آخرها بالفعل.

حجم الدمار الهائل، ليس هو الرادع الوحيد. ولا الأضرار المادية أو حتى الإنسانية بكل ما تنطوي عليه من آلام وعذابات. الرادع الأهم، هو الإفلاس الفكري والأخلاقي والإنساني الذي كشفت عنه هذه الحرب.

لم يبق لدى موسكو مزعم كاذب إلا وكذبته من أجل تبرير الحرب. أوهام تليها أخرى، حتى بلغ الإفلاس حد اتهام أوكرانيا بإعداد “قنبلة قذرة”، وعندما سُئل المسؤولون الروس عن الدليل، فقد قدموا صورا من سلوفينيا تعود إلى العام 2010. مصدرها، بحسب الحكومة السلوفينية، هو “وكالة النفايات المشعّة” التابعة لها.

لم تكن روسيا في حاجة إلى هذا المستوى من الكذب، ومن الفشل حتى في الكذب، إلا أنها لم تعد تملك شيئا آخر.

◘ يبحث الرئيس بوتين عن سبيل للتفاوض، ولا يجده. ويطالب وزير خارجيته بالاحترام، ولا يحصل عليه. ويتوسل وزير دفاعه الأعذار لكي يستخدم قنبلة "قذرة" على الأقل، فيلقى الاستهزاء والسخرية

قدمت روسيا مبرّرات ومزاعم شتى. وأعلت جبالا من المخاطر الوهمية. وغلفتها بمزاعم إستراتيجية وتهديدات افتراضية، بينما كان الأمر كله يتعلق بالرغبة في احتلال أوكرانيا، أو استعادت الهيمنة الروسية عليها.

الآن، لم يعد مهما أين أخطأت موسكو في حساباتها. لأن كل حساباتها كانت خاطئة من الأساس. كلها بالفعل. بما في ذلك الأوهام المتعلقة ببناء نظام دولي جديد، وآخر “متعدد الأقطاب”، وثالث يتحدث عن “نهاية الهيمنة الغربية”.

أحد أهم أسباب الفشل، هو أن موسكو ما تزال تحتسي شراب العقيدة القومية، لتسكر به. فودكا التفوق الإمبراطوري، أقنعتها بأنها تستطيع أن تستعيد أمجاد الماضي. وبدلا من لينين، أصبح بطرس الأكبر هو الرمز.

ما يجعل الغرب متفوقا، هو أنه يفكر بموضوعية. إنه يحسب، على الآلة الحاسبة، ما لديه وما عليه، قبل أن ينطق. هذه هي سمة التفوق الأهم. ليست المسألة هناك مسألة “تعددية آراء” أو “تفكير حر”، بالمعنى السياسي أو الأيديولوجي للكلمة. إنها موضوعية حسابات رياضية صرف.

لا أعرف كيف أشرح الأمر. ولكن يمكنك أن تدركه، عندما تلاحظ أن التعبير عن الرأي ليس مجرد قول تقوله انطلاقا من اعتبارات نظرية، أو مشاعر، أو افتراضات، أو أوهام، أو انطباعات، أو مخاوف. إنه عمل من أعمال الحساب. بمعنى أنك قوة مهيمنة في سوق النفط، على سبيل المثال، عندما تعرف حجم حصتك في كل ما له علاقة بالسوق، من عمليات الشحن والتأمين والمصافي والاستخراج والبورصات، وغير ذلك.

الأمر نفسه ينطبق على القوة العسكرية. إنها ليست صواريخ فقط. ولا قوة نووية فقط. إنها أسلحة من كل نوع، وتكنولوجيات تبدأ من الفضاء وصولا الى آخر بندقية.

◘ لم يعد مهما أين أخطأت موسكو في حساباتها. لأن كل حساباتها كانت خاطئة من الأساس
◘ لم يعد مهما أين أخطأت موسكو في حساباتها. لأن كل حساباتها كانت خاطئة من الأساس

لقد كان بوسع الجميع أن يدرك حجم الإفلاس في موسكو، منذ اللحظات الأولى التي دفعت الكرملين إلى التلويح بالقوة النووية. لقد كان ذلك بمثابة اعتراف مسبق بالفشل في كل حسابات القوة أو التفوق الأخرى.

الرئيس فلاديمير بوتين اعترف بذلك بنفسه، وراهن على فكرة وحيدة، هي أنه يستطيع ابتزاز الغرب بقوته النووية. ليقول ما معناه: دعوني أفعل ما أشاء، وإلا فان الدمار الشامل سوف يلحق بالجميع.

ولكن سرعان ما تبيّن أن هذه الفكرة سخيفة، وغبية، وكل ما شئت من الأوصاف اللائقة وغير اللائقة الأخرى.

إنها تقول، بعبارة أخرى: دعوني أدمر تفوقكم، وغناكم، ومصالحكم، وحياتكم كلها، وأن تعيشوا أذلاء تحت سلطتي وسطوتي وأطماعي، أو أن أستخدم أسلحتي النووية ضدكم. وسأفعل ذلك، ليس لأنّني أقوى، بل لأنني لا أملك وسيلة أخرى لكي أفرض عليكم ما أريد.

الجواب البسيط الذي تلقاه، يشبه الشتيمة المألوفة في كل شارع في الولايات المتحدة. وأرسلت واشنطن أقوى فرقها العسكرية الجوية (الفرقة 101) لتعسكر في شرق رومانيا، على بعد دقائق من الحدود مع أوكرانيا، لكي تضفي عليها تجسيدا عمليا.

لا تحتاج إلى عبقرية لكي تفهم أن استخدام الأسلحة النووية هو بمثابة انتحار جماعي. والولايات المتحدة، لن تكون مضطرة للرد عليها بالمثل. إنها تنتظر من موسكو استخدام أسلحتها النووية، لأجل أن تجعلها تدفع ثمن الإفلاس الأخلاقي والإنساني الشامل، فتمضي في منحدر القطيعة الشاملة مع العالم برمته. وهذا ليس مجرد تهديد فارغ. إنه حسابات قد تبدأ من طرد كل سفراء موسكو، إلى قطع كل أنظمة الاتصالات، بما فيها الأنظمة الفضائية، وصولا إلى تدمير أسطولها البحري، وقواتها على الأراضي الأوكرانية. أي كل ما يتوفر للغرب من تفوق بارد، لفرض العزلة على كيان مهزوم أخلاقيا ولا يستحق حتى الرد عليه بمثل ما قد يفعل.

الصدمة الهائلة التي سوف يُحدثها استخدام أسلحة نووية “تكتيكية”، سوف تكفل بحد ذاتها هزيمة تستمر إلى الأبد. أكثر من ثلاثة أرباع دول العالم أدانت غزو أوكرانيا، ورفضت ضم الأراضي الأوكرانية. كم من دول العالم، سوف يبقى صامتا حيال جريمة نووية تُرتكب لمجرد أن الجيش الروسي يخوض حربا تقليدية أثبت فيها عجزه؟ حتى الصين، الحليف الأقرب لروسيا، لن تجد في هذه الجريمة شيئا يمكن تحمله.

◘ لم يبق لدى موسكو مزعم كاذب إلا وكذبته من أجل تبرير الحرب. أوهام تليها أخرى، حتى بلغ الإفلاس حد اتهام أوكرانيا بإعداد "قنبلة قذرة"

يبحث الرئيس بوتين عن سبيل للتفاوض، ولا يجده. ويطالب وزير خارجيته بالاحترام، ولا يحصل عليه. ويتوسل وزير دفاعه الأعذار لكي يستخدم قنبلة “قذرة” على الأقل، فيلقى الاستهزاء والسخرية. حتى الأكاذيب لم تعد أكاذيب لائقة. وحتى لتستغرب كيف يمكن لوكالة المخابرات الروسية أن تستخدم صورا، كدليل ضد أوكرانيا، بينما هي لم تلاحظ أن الكتابة على الحاويات المشعة، كانت سلوفينية.

هل هذا بلد يستحق أن يكون قوة عظمى؟ هل يستحق، بمستواه الرديء على كل الأصعدة، أن يقرر مصير البشرية؟

ما بلغه هذا البلد من انحطاط، يعود الى أمرين:

الأول، أنه لا يفكر. ولا يعرف لماذا أن الفكر هو عمل من أعمال الرياضيات، وليس الانطباعات والمعتقدات والمشاعر.

والثاني، أنه لا يعرف لماذا أصبحت الحروب التقليدية (والنووية) شيئا من الماضي.

الحرب في أوكرانيا، هي آخر الحروب. يجب أن تكون.

9