الدولة العثمانية بين تعاظم الاستبداد السلطاني والثالوث الشيطاني

تكتسي دراسة تاريخ الدولة العثمانية أهمية كبرى، لما شكلته هذه الحقبة من تأثيرات على العالم بأسره، وعلى مسار الحضارة العربية الإسلامية بصفة خاصة. هذه الدولة المترامية الأطراف عرفت أزهى عصورها وسيطرت على أغلب بقاع الأرض، ثم بدأت في الانحدار بعد أن عاشت فترات حالكة كانت سببا في انهيارها أو ما اصطلح على تسميته في عشرينات القرن الماضي بـ”الرجل المريض”، هذا التاريخ الطويل شهد الكثير من الأحداث والتقلبات والمنعرجات التي كانت سببا في تضارب تدوين تاريخها الصحيح.
الأربعاء 2016/11/09
إخلاء المسلمين لمدينة نيكوبول البلغارية بعد سقوطها بيد روسيا وفق ما نصت عليه معاهدة سان ستيفانو

يقدّم كتاب “الدولة العثمانية: قراءة جديدة لعوامل الانحطاط” للباحث قيس جواد العزاوي قراءة جديدة لعوامل انحطاط الدولة العثمانية مشيرا إلى أن أخطر مراحل التاريخ التي تستحق التمحيص والتدقيق هي المراحل الأخيرة التي شهدت تحولا حقيقيا في مسار السلطنة. تحول أو بالأحرى تحديث اقتضته عوامل عديدة داخلية وخارجية، ولكنه كما يثبت الكتاب ذلك، وتؤكده الوقائع غير مجرى التاريخ التركي والعربي.

ويعالج هذا الكتاب عوامل ضعف أساسية في عملية انحطاط الدولة العثمانية، وعلى أهمية وخطورة هذه العوامل رأى العزاوي أنها لم تنل حقها من الدراسة والتمحيص، حيث انقسم الدارسون للمرحلة الأخيرة من تاريخ الدولة العثمانية إلى فريقين، الأول قال بتخلف السلطنة وباختفاء مبررات استمرار خلافة دينية، وسط عالم متطور من الدول القومية الحديثة، مشيرا إلى تعاظم الاستبداد السلطاني، وعدم توازن الدولة، وضعف إمكانات تطورها السياسية والاقتصادية، واستشراء الرشوة والفساد في جهازها الإداري، حتى أن آخر محاولات الإنقاذ التي عبرت عنها الثورة الدستورية عام 1908، لم تنفع. أما الفريق الثاني الذي يمثله المدافعون عن الدولة العثمانية فيعزوا أسباب ضعف الدولة إلى عوامل خارجية أساسها الصهيونية والماسونية والإمبريالية، وهي ما سمي في ما بعد بالثالوث الشيطاني، الذي مازال -في نظرهم- متربصا بالعالم العربي الإسلامي.

أخطر مراحل التاريخ التي تستحق التمحيص والتدقيق هي المراحل الأخيرة التي شهدت تحولا حقيقيا في مسار السلطنة

قطيعة متبادلة

مضى على أول إصدار لهذا الكتاب عقدان من الزمن، طبع خلالهما خمس مرات، وقد تغيرت أمور كثيرة في هذه الفترة، فالاهتمام بالدراسات العثمانية بات توجها علميا وأكاديميا عربيا، فتعددت مراكز الدراسات وكثرت الندوات والمؤتمرات وصدرت العشرات من الكتب، وربما يكون إقبال الدارسين والمهتمين العرب على اقتناء الكتاب عائدا وفقا للمؤلف بالأساس إلى هذه الأهمية التي يضع العزاوي أسبابها في مقدمته الجديدة للكتاب الذي صدرت طبعته الخامسة عن دار آفاق بالقاهرة؛ أولا: بعد سنوات القطيعة المتبادلة ما بين العرب والأتراك التي بدأت في منتصف العشرينات من القرن الماضي عاد التواصل بين الأمتين في بداية التسعينات فاستدعى اهتماما متبادلا.

ثانيا: تسارعت وتيرة العلاقات مع الصعود الاستعراضي للتيار الإسلامي التركي الذي وجد أن الاتحاد الأوروبي يضع عراقيل كبيرة أمام انضمام تركيا إليه لاعتقاد البعض من القادة الأوروبيين بأن الاتحاد ناد للدول المسيحية، وهو ما دفع الإسلاميين الأتراك للعودة إلى محيطهم الجيوبوليتيكي والتمسك بعمقهم الاستراتيجي الإسلامي باعتباره حسب منظرهم للسياسة الخارجية أحمد داود أوغلو “الحديقة الخلفية لتركيا” التي تعيش في شرق أوسط يحتوي على الخطوط الأساسية لتاريخ الإنسانية على الصعيدين المادي والروحي.

ثالثا: كان للنجاح الاقتصادي الباهر الذي حققه “حزب التنمية والعدالة” بنقله الاقتصاد التركي ليشغل المكانة السادسة عشرة على المستوى العالمي، والسادسة على المستوى الأوروبي أثره البالغ في الساحة العربية إذ بات نموذجا يحتذى به، وتضاعفت مستويات التبادل التجاري العربي التركي إلى درجات قياسية، فتركيا اليوم موجودة في معظم المشاريع العربية.

ولعل أكثر ما زاد الاهتمام العربي بالتاريخ العثماني هو نزعة العثمنة التي اصطبغت بها السياسة التركية في جميع مجالات العمل المشترك: الاجتماعية والثقافية والفنية والاقتصادية، وهي في الوقت الذي تثير فيه البعض من الحساسيات السيادية لدى البعض تثير في الوقت نفسه الحنين إلى مجد التاريخ المشترك لدى البعض الآخر.

كتاب يقدم العوامل التي أدت إلى موت "الرجل المريض"

أساطير مضللة

الطبعة الجديدة ضمت إلى جانب مقدمة المؤلف مقدمة الباحث محمد عفيفي الذي أشار إلى أن صورة الدولة العثمانية كانت وحتى وقت قريب محاطة بالكثير من الأساطير المضللة، إذ وصل البعض إلى حد التحقير من شأن الدولة العثمانية بأنها رمز “الاستبداد الشرقي”. وعزفت كتابات أغلب المستشرقين على هذا الوتر، وحتى بالنسبة إلى الشعوب الناطقة بالعربية، تضاربت فيها صورة الدولة العثمانية بشكل كبير، ففي المغرب العربي كانت الدولة العثمانية بمثابة المنقذ الإسلامي الذي بعثه القدر كي يحمي شمال أفريقيا من الهجمات من جانب الأسبان المشبعين وقت ذلك بروح صليبية جديدة، نتيجة شعار “الاسترداد” في أعقاب سقوط الأندلس.

وفي مصر كانت الدولة العثمانية بمثابة رمز للتخلف الذي دخلت فيه مصر بعد فقدانها لعظمتها كمركز لأقوى قوة في شرق البحر المتوسط، ونقصد بذلك دولة المماليك. وفي رأي هؤلاء لم تخرج مصر من هذا التدهور إلا على ناقوس الحضارة الغربية متمثلة في الحملة الفرنسية، أو التحديث على يد محمد علي. أما عن الشرق العربي فلم تبق في الأذهان إلا الفترة الحرجة الأخيرة في عمر الدولة في الشام للقوميين العرب، ثم أخيرا ما عرف بـ“ثورة الشريف حسين”.

يقول محمد عفيفي “هكذا تاهت الصورة الحقيقية للدولة العثمانية بين الاختيارين التقليديين الأبيض أو الأسود، ونسي هؤلاء وأولئك أن الدولة العثمانية مثلها مثل أي دولة عظمى لها ما لها وعليها ما عليها. وأن دولة استمرت حوالي ستة قرون، لا ينبغي أن نتناولها بشكل عام يخفي حقائق ودقائق الأمور وأن لكل فترة من فترات الدولة أفكارها وظروفها وأوضاعها الخاصة”.

ويضيف عفيفي “لم يكن هذا السقوط بالحدث الهين، لقد فسره البعض على أنه بمثابة نهاية الحضارة الإسلامية وبداية “تغريب” أو “تحديث” العالم الإسلامي، ولهم في ذلك أسوة حسنة كمال أتاتورك، بينما رأى البعض الآخر في هذا السقوط بدايات الصحوة الإسلامية المعاصرة، ألم تنشأ جماعة “الإخوان المسلمين” في عام 1928، وفي أعقاب إلغاء الخلافة الإسلامية “العثمانية” ألم ترتج الشعوب الإسلامية في آسيا نتيجة هذا الحدث، وقدمت استجابات إسلامية سواء على المستوى السياسي “الباكستاني” أو على المستوى الفردي “المودودي والندوي”.

12