أنطونيو غوتيريس برتغالي محافظ هل يسدل ستار النهاية على اللعبة الدولية

باريس - يتقدم البرتغالي أنطونيو غوتيريس مع بداية العام المقبل ليكون على رأس منظمة الأمم المتحدة بعد أن قررت الجمعية العامة تعيينه بالتزكية خلفا للأمين العام المنتهية ولايته بان كي مون. وسيباشر غوتيريس مهامه في اليوم الأول من عام 2017 لولاية تمتد أربع سنوات قابلة للتجديد.
وفي مشهد لا يخلو من العبثية وقف بان كي مون ليكرّم المندوب الدائم للنظام السوري بشار الجعفري، في حفل أقيم لتكريم السفراء الذين قضوا 10 سنوات كسفراء لبلادهم في الأمم المتحدة. على الرغم من أن النظام الذي يمثله الجعفري متّهم من قبل الأمم المتحدة نفسها بانتهاك كافة القوانين والاتفاقيات الدولية، وهو النظام نفسه الذي دفع السيد بان كي مون لإبداء قلقه للعشرات من المرات خلال السنوات الخمس الأخيرة.
وبمقدار عبثية المشهد ولا معقوليته إلا أنه يعكس واقع حال المنظمة الدولية التي تحولت خلال العقود الثلاثة الأخيرة، على الأقل، إلى مجرد مكان لالتقاط الصور التذكارية. واكتفت بدور المراقب دون أن تكون قادرة على التأثير في مجريات الأحداث ولا في السياسة العالمية، وتحوّل منصب الأمين العام إلى سكرتير لدى الدول الكبرى يقتصر عمله على التحضير للاجتماعات وحضورها دون أن يكون للمنظمة التي يرأسها أيّ رأي أو دور أو تأثير، وهذا ينافي طبعاً الهدف الرئيس من وراء إنشائها، أي أن تعمل على ردع المعتدين وحفظ الأمن والسلم الدوليين في العالم.
لكنها قبلت أن تكون جهة منفذة للإرادة الأميركية في الكثير من الأحيان حين وقفت تتفرج على الاحتلال الأميركي لفيتنام والتدمير الهائل الذي أحدثته القوات الأميركية هناك، وما تلاه لاحقاً في العالم.
القادم الجديد
يوصف البرتغالي غوتيريس بأنه نصير اللاجئين. فهو الرجل الذي لم تخل تصريحاته النارية في أغلب الأحيان من تقريع للدول التي تغلق أبوابها في وجوه اللاجئين أو تلك التي تضع شروطاً تعجيزية أمام استقبالهم.
وكان قد طالب في العديد من المرات الدول الأوروبية بأن تقوم بجلب اللاجئين من المخيمات بدل أن تضع العراقيل في وجوههم، معتبراً أن أوروبا التي تعاني من مشكلة انخفاض الخصوبة في الكثير من دولها بحاجة ماسة لأولئك المهاجرين الذين يشكلون جزءاً من الحلّ وليسوا جزءاً من المشكلة.
كما اعتبر أن رفض استقبال اللاجئين المسلمين يوفر دعماً للإرهاب وللجماعات المتطرفة. بهذا النزق الذي يميز تصريحاته عبر غوتيريس مراراً عن وقوفه إلى جانب المستضعفين.
غوتيريس يغادر منصبه السابق كمفوض سامٍ لمنظمة الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، والتي تعتبر أكبر المنظمات الإنسانية في العالم، إذ يبلغ عدد موظفيها أكثر من عشرة آلاف موظف يعملون في 126 دولة لتوفير الحماية والمساعدة إلى أكثر من 60 مليوناً من اللاجئين والنازحين داخليا والأشخاص عديمي الجنسية
ولد أنطونيو مانويل دي أوليفيرا غوتيريس عام 1949 في العاصمة البرتغالية لشبونة وتلقى تعليمه فيها، درس الفيزياء والهندسة الكهربائية في المعهد العالي للتكنولوجيا في لشبونة.
وتخرج عام 1971 وبدأت ممارسة العمل الأكاديمي كأستاذ مساعد، قبل أن يغادر الحياة الأكاديمية ليبدأ حياته السياسية، فانضم عام 1974 إلى الحزب الاشتراكي. وفي أعقاب الثورة التي أطاحت بالحكم الدكتاتوري في البرتغال في العام نفسه، انتخب نائباً في البرلمان الوطني عام 1976 ثم أصبح عضواً في الفريق المفاوض على شروط انضمام البرتغال إلى الاتحاد الأوروبي.
أصبح غوتيريس أميناً عاماً للحزب الاشتراكي، في بداية تسعينات القرن العشرين، وبعد فوز حزبه في الانتخابات البرلمانية، اختير ليكون رئيساً للوزراء. وعرف عنه خلال رئاسته للحكومة معارضته الشديدة للسماح بالإجهاض كما كان يعارض تشريع قانون يسمح بزواج المثليين.
عام 2001 وفي الانتخابات المحلية فقد الحزب الاشتراكي الذي يتزعمه الأغلبية التي كان يتمتع بها. فخرج غوتيريس من الحكومة من بابها العريض، وفضل تقديم استقالته بالكلمات التالية “سأستقيل لمنع البلاد من الوقوع في مستنقع سياسي” كما قال. وانتخب في العام نفسه رئيساً للاشتراكية الدولية واستمر في موقعه ذاك حتى عام 2005 حين وقع الاختيار عليه فانتخب مفوضاً سامياً لمنظمة الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، والتي تعتبر أكبر المنظمات الإنسانية في العالم، إذ يبلغ عدد موظفيها أكثر من عشرة آلاف موظف يعملون في 126 دولة لتوفير الحماية والمساعدة إلى أكثر من 60 مليوناً من اللاجئين والنازحين داخلياً والأشخاص عديمي الجنسية.
منعطف العراق
لكن ليفهم المرء طبيعة مهمة الأمين العام الجديد للأمم المتحدة، فإن عليه أن يعود إلى الوراء قليلاً، بداية عام 2003، حين
وجدت المنظمة الدولية نفسها في موقف أكثر تعقيداً من جميع المواقف السابقة التي تعرضت لها. إذ كان واضحاً للجميع أن الولايات المتحدة، ومعها بعض حلفائها، قد عقدت العزم على شنّ حرب على العراق بعد حصار دام 13 عاماً ساهمت المنظمة الدولية في فرضه وإصدار قراراته عقب قيام القوات العراقية بغزو الكويت ثم إخراجها منه بتحالف دولي تحت غطاء الأمم المتحدة.
وقد اشتدت حدة الرفض الدولي للنية الأميركية البريطانية تحديداً في شن حرب جديدة على العراق، لا من قبل بعض الحكومات العالمية ولكن أيضاً من قبل الشعوب والتي تظاهرت احتجاجاً في أكثر من 600 مدينة حول العالم، وشهدت العاصمة البريطانية لندن وقتها أضخم مسيرة سلام في تاريخ المملكة المتحدة، رفع المتظاهرون خلالها شعارات تعارض الحرب التي لم تكن مبرّرة، خاصة وأن تقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرية قد قللت من احتمال أن يكون العراق يمتلك فعلاً أسلحة دمار شامل كما كانت تزعم وقتها كل من لندن وواشنطن.
|
وعلى الرغم من هذا الرفض الدولي كلّه، والذي وصل إلى قاعات الأمم المتحدة وأحدث انقساماً في مجلس الأمن، جعل الأمين العام آنذاك كوفي أنان يلمّح إلى أن الحرب ليست حتمية، وأن المنظمة الدولية التي يرأسها ستبحث عن سبل بديلة. إلا أن ذلك كله تبدد حين أعلن الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن بدء العمليات العسكرية، لتتوقف عند ذاك الحد جميع الاحتمالات.
في أعقاب إسقاط نظام الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، شرعن مجلس الأمن الدولي من خلال مشروع قرار أميركي وجود قوات الاحتلال وأطلق عليها تسمية التحالف أو الائتلاف.
ووفّرت الأمم المتحدة بذلك القرار غطاءً لكل دولة تريد أن تشارك في احتلال العراق أو تساعد الولايات المتحدة في مهمتها، سواءٌ بتخفيف الأعباء العسكرية عنها، أو بتحمل جزء من تكلفة احتلال العراق تحت مسمّى إعادة الإعمار، دون أن يتضمن القرار المذكور أي بند ينص على محاسبة القوات المشاركة في الاحتلال أو التحالف في حال ارتكابها مخالفات، ولا حتى أن يحدّد جدولاً زمنياً لذلك الاحتلال وترك الأمر برمته رهناً للمشيئة الأميركية.
قد تكون تلك التفاصيل المتلاحقة شكلت القشة التي قصمت ظهر البعير كما يقال، والبعير هنا ليس سوى المنظمة الدولية التي كانت تريد أن تصوّر نفسها على أنها الخيمة التي تستظل بظلها الشعوب “الضعيفة” في وجه الهيمنة الأميركية التي تفرّدت لسنوات بالقرار الدولي.
موسم الهجرة إلى الشمال
الحروب والصراعات العديدة التي شهدتها مناطق متفرقة، على الضفة الأخرى من البحر الأبيض المتوسط في الصومال وأفغانستان ثم انتقلت إلى مناطق أخرى في العراق والسودان وسوريا فتحت الباب واسعاً أمام موجات نزوح وهجرات جماعية متعاقبة، لم تتوقف حتى يومنا هذا، وفيما وقفت الأمم المتحدة عاجزة كلياً عن إنهاء تلك الصراعات أو الحدّ منها، فإنها بدت في أوقات كثيرة أشد عجزاً عن معالجة النتائج الكارثية المترتبة عليها، أو حتى التخفيف منها. وقد تفاقم عجزها خلال السنوات الخمس الأخيرة بشكل واضح، وخاصة مع بدء الانتفاضة الشعبية في سوريا، والتي كانت المنظمة الدولية شاهد عيان على تطوّرها وتحوّلها إلى أزمة عالمية وخاصة فيما يتعلق بقضية المهجّرين الذين فاق عددهم وفق إحصائية الأمم المتحدة نفسها الخمسة ملايين، توزع معظمهم ما بين دول الجوار في كلّ من لبنان وتركيا والأردن حيث أقيمت لهم مخيمات مؤقتة ما لبثت أن تحوّلت إلى مخيمات دائمة، وكان المفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين البرتغالي، الذي هو ذاته أنطونيو غوتيريس، يبدي عجزه في الكثير من المرات لعدم قدرة المنظمة الدولية عن تقديم العون اللازم لهذا العدد الكبير من المهجرين، أو المساهمة في التخفيف من معاناتهم، بسبب النقص الكبير في المساعدات التي تقدّمها الدول المانحة لمنظمته.
ينظر الكثير من المراقبين إلى السنوات العشر التي أمضاها غوتيريس في منصبه مفوضاً سامياً لشؤون اللاجئين على أنها كانت فترة ناجحة شهدت خلالها المنظمة إصلاحات كبيرة على كافة المستويات وخاصة في ظلّ أزمات الهجرة والنزوح المتلاحقة والتي تعتبر الأسوأ منذ الحرب العالمية الثانية.
في أول كلمة له أمام الصحافيين في ختام جلسة الجمعية العامة للأمم المتحدة بعيد انتخابه أميناً عاماً للأمم المتحدة تعهد غوتيريس ببذل كل الجهود الممكنة لنشر السلام في سوريا. وقال إن قلبه ينفطر ألماً عندما يشاهد معاناة الشعب السوري، ولذلك سيفعل كل ما في وسعه لجلب السلام لهذا الشعب.
لكن هل يستطيع السياسي البرتغالي صاحب الخبرة الطويلة أن يضع المنظمة الدولية في مسارها الصحيح، وأن يحوّلها من مجرّد أداة بيد الدول القوية إلى منظمة فاعلة لها وزنها في العالم الذي لم تعد تحكمه القوانين والأعراف الدولية.