الخاصة والعامة في التراث العربي الإسلامي: الأسئلة القديمة المستعادة

دأبت المدوّنات العربية القديمة على إدراج كلّ من الخلفاء والملوك وحاشيتهم من وزراء ورؤساء الدواوين وكذلك الفقهاء والعلماء والقضاة ووجهاء القوم من الأثرياء في فئة الخاصة، بينما تدرج الشرائح الأخرى من الفلاحين والمهنيين والعاملين بالساعد والأعراب والعبيد والبطّالين والمهمّشين وغيرهم من الفقراء والمعدمين في فئة العامة.
لم تُترك مثلبة ومذمّة إلّا وأُلصقت بالعوام، وأوصافهم في هذه المدوّنات تغني عن كلّ تعليق فهم “أوباش” “حشوة” و”رعاع” و”سواد” و”سفلة” و”أغتام” (عديمو الفصاحة)، كما نستشف ذلك من رسالة حبّرها أبوالعنبس الصيمري في التشهير بالعامة اختار لها عنوان “مساوئ العوام وأخبار السفلة والأغتام”، هذا إضافة إلى صفة “الغوغاء” التي تعني في الأصل الجراد إذا ماج بعضه على بعض، قبل أن تقع استعارتها للتعبير عن الغوغاء من الناس، الذين “إذا اجتمعوا غلبوا، وإذا تفرقوا لم يُعرفوا” كما ورد في “طبائع المُلك” لابن الأزر.
كلّ هذه الصفات اختزلها أبوحيان التوحيدي الأديب الفيلسوف وأضاف إليها في قوله “العوام همج وأوباش ولفيف ورعائف وداصة وسقاط وأنذال لأنهم من قلّة الهمم وخساسة النفوس ولؤم الطباع على حال لا يجوز أن يكونوا في حومة المذكورين”. ورغم الإقرار بأنّ “الخاصة تحتاج إلى العامة كحاجة العامة إلى الخاصة”، كما يؤكّد الجاحظ، إلّا أنّه يعتبر كغيره من علماء العرب القدامى العوام مجرّد أداة في خدمة الخواص مثل الأدوات التي تستعمل في فلح الأرض وفي الصنائع، ومن ثمة فهم لا يصلحون إلا عبيدا لأسيادهم ووقودا في الحرب يستعملون للدفاع عن الدولة والذود عنها ولمقارعة أعدائها في الداخل والخارج “وإنّما العامة أداة للخاصة، تبتذلها للمهن وتُزجّي بها الأمور، وتطول بها على العدوّ وتسدّ بها الثغور، وهي لا تعرف قصْد القادة ولا تدبير الخاصة ولا تتروى معها… وعند نفورها وتهييجها وغلبة الهوى والسُخف عليها، وإنْ حسُن تدبير الخاصة وتعهّد الساسة (الضرر الذي تحدثه عظيما) لأنّها إذا انكفت بالخاصة وتنكّرت للقادة، كان البوار الذي لا حيلة له، والفناء الذي لا بقاء معه… وصلاح الدنيا وتمام النعمة، في تدبير الخاصة وطاعة العامة… وإنّما العامة جُنّة للدفع، وسلاح للقطع، وكالترس للرامي، والفأس للنجّار…”.
هذه الآراء مضت عليها المئات من السنين، إلا أنها مازالت تثار اليوم في الفكر الإنساني عند الخوض في فلسفة الديمقراطية
الخطر كما يرى الجاحظ يكمن في تمرّد العوام وشقّهم لعصا الطاعة وانقلابهم على خاصة القوم، فذلك مؤذن بالخراب أو “بالبوار” والفناء أي العدم. العامة كما يؤكّد الجاحظ على لسان كلّ مفكّري العصور العربية القديمة “لا تحصّل ولا تنظّر ولا تفكّر” لأنّها تفتقد إلى ملكة الفهم والعقل الذي يحتكره الخواص، فحتّى في أمور الشريعة فأقصى ما يمكن أن يعرفه العوام هو “التنزيل المجرّد بغير تأويله، وجُمْلة الشريعة بغير تفسيرها وما جلّ (وضح) من الخبر واستفاض، وكثر ترداده على السماع، وكرّروه على الأفهام، وأمّا الذي يجهلون فتأويل المُنزّل وتفسير المُجْمَل، وغامض السُنن التي حملته الخواص عن الخواص”.
وباب آخر يجهله العوام ويخبط فيه الحشو كما يضيف أبوعثمان هو الخوض في القضايا الفكرية والدينية المعقّدة كالكفر والإيمان والقضاء والقدر والوعد والوعيد، ولذلك إذا انتصب عالم يُنظّر في هذه القضايا التي تستعصي على أفهام العوام عارضوه وخطّأوه قبل أن يكفّروه (ويهدرون دمه) ويحدثون اضطرابا وهرجا ومرجا، بل فتنة كثيرا ما كان يشعلها على مدى التاريخ الإسلامي الغلاة من العوام المعادين للفكر والعقل مدفوعين من قادتهم من أشباه الخواص من “الأئمة المقلّدين” على حدّ تعبير الجاحظ.
وعلى هذا النحو، فإنّ ما كان على هذه الصفات وانعدمت عنده ملكة العقل وانساق إلى هواه وغرائزه البهيمية وسهُلت استمالته من أهل الباطل أكثر من أهل الحقّ لا يصلح أن يكون له رأي ودور في سياسة الأمّة وفي اختيار من يقودها وانتخابه وتنصيبه في سدّة الحكم، هكذا يؤكّد الجاحظ “فإنّا نزعم أنّ العامة لا تعرف معنى الإمامة وتأويل الخلافة ولا تفصل بين فضل وجودها وعدمها ولأيّ شيء ارتد.ّ.. بل هي مع كلّ ريح تهبّ وناشئة تنجم، ولعلّها بالمُبْطلين أقرّ عينا منها بالمحُقّين”.
هذه الآراء وإن مضت عليها المئات من السنين، فإنّها مازالت تُثار اليوم في الفكر الإنساني عند الخوض في فلسفة الديمقراطية ولدى العرب على وجه الخصوص، خاصة في السنوات الأخيرة مع ما أُطلق عليه بالربيع العربي، وتطرح سؤالا إشكاليا: هل يُعقل باسم الديمقراطية أن تحدّد شرائح واسعة من “الجهلة”، البعض منهم يصل إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع، مصير الأجيال والأوطان؟ الإجابة تحتاج إلى الكثير من البحث والتفكير ولكنها في صلب انشغالات الفكر السياسي العربي المعاصر.