طقوس الاستمطار عادات تستدعى في مواسم الجفاف

صلاة الاستسقاء، هي عادة شعبية عربية إسلامية، تقع في منتصف المسافة بين البعد الديني والتمثلات الشعبية للتفاعل مع أزمات المياه. وهو سلوك عاد إلى الظهور بقوة مؤخرا على خلفية أزمة المياه التي مست أقطار عربية وإسلامية عديدة، وهو ما ذكر بما تمثله هذه العادة في المخيال الشعبي وما ترتبط به من اغان وأهازيج وممارسات شعبية قديمة.
الاثنين 2016/09/19
مازال أطفال تونس يرددون أهازيج الاستمطار إلى اليوم

تونس- منذ عقود مضت وفي مثل هذا الشهر مع قدوم فصل الخريف وانتظار الغيث النافع في البوادي العربية كانت ألعاب الأطفال وأغانيهم مستوحاة من بيئتهم وكانت للأطفال طقوسهم للاستمطار والاحتفال بهطول المطر يمارسونها باللعب والإنشاد.

ومن الأغاني الطفولية للاستمطار والاحتفال بالغيث، والتي علقت في المغرب العربي بذاكرة الأجيال التي لم تعصف بها الحداثة المتضخمة، الأهزوجة التي كان يترنّم بها الأطفال ولعل القليل منهم مازال على هذه الحال خصوصا عندما يرى أن السماء قد بدأت في التلبّد بالغيوم أو عندما يبدأ السحاب في التحلّل والنزول رذاذا يبلّل رؤوس هؤلاء الأطفال اليانعة ويداعب شعورهم ومشاعرهم. وتُعرف هذه الأهزوجة بـ”يا مطر يا خالتي” وتصدح بها حناجر الأطفال وهم ينتظمون في حلقة أو حلقات متجاورة، فتشدّ يد الواحد منهم يد الآخر حتّى تنغلق الدائرة ويبدأون في الدوران حول أنفسهم وحول الكون مردّدين “يا مطر يا خالتي صبّي على قُطايتي، قُطايتي مدهونة بزيت الزيتونة”..

وتختلف كلمات هذه الأهزوجة من جهة إلى أخرى اختلافا جزئيا بين الجزائر وتونس وليبيا خاصة في المناطق المتاخمة للصحراء التي يندر فيها المطر ويزداد الشوق إليه مع الحفاظ على نفس اللازمة بنداء المطر وإطلاق صفة الخالة عليه:

“يا مطر يا خالتي صبّي على قطّايتي قطايتي مدهونة بزيت الزيتونة

أعطيني رويحه شيح قدام ما نطيح

مطر تجينا بالعشيّة حز على جمالك واتهيأ

مطر تجينا كل صباح إن شاء الله مطايركم اسماح

مطر تجينا طول الليل تروي غنم وبلّ وخيل”

ويطلب الصبية من المطر أن يصبّ على “قطّياتهم”، أي شعورهم المدهونة بزيت الزيتون، فما كان أهلهم يعرفون في ما مضى غيره من الزيوت لتثبيت الشعر مكانه حتى لا تعبث به الرياح ثم يطلبون بأن تمدّهم بالشيح، وهو النبات المعروف بفوائده الصحّية ولعلّه وقع الالتجاء إليه للضرورة الشعرية بتوحيد القافية الداخلية مع الخارجية “الحاء” تمهيدا للسقوط “الطيح”، إحالة على انتهاء الأهزوجة بسقوط الأطفال بفعل الدوران حول أنفسهم. ويطلب الأطفال من المطر بألّا يكف عن الهطول وألاّ يحرمهم من الفرحة ومتعة رؤية ذويهم مقبلين على حرث الأرض يهيئون جمالهم ويحمّلونها بالبذر متمنين ألّا يكون المطر غزيرا فيجمعونه ويضاعفونه “مطاير” فقط، وإنّما أن تكون كذلك “سماح” أي جميلة على قدر عطائها تروي غنمهم وإبلهم وخيلهم.

كلمات هذه الأهزوجة تختلف بين الجزائر وتونس وليبيا خاصة في المناطق المتاخمة للصحراء التي يندر فيها المطر

ما يلفت الانتباه هو إطلاق صفة الخالة على المطر دون غيرها من الصفات، ولا غرابة في ذلك، فالخالة من مشتقات الأمومة المغذية عاطفيا وجسديّا باعتبارها مثل المطر نبعا لا ينضب من الحنان.

غير أنّ أهزوجة “يا مطر يا خالتي”، وإن بدت مستقلّة بذاتها في تراث المنطقة التي تمتدّ من جنوب شرق تونس إلى غرب ليبيا وجنوبها ولعلّها في شرقها أيضا، فإنّها في منطقة نفزاوة بواحات قبلي ودوز التونسية تتداخل مع كلمات أهزوجة “يا مطر صبي صبي”، وهي أهزوجة نجدها منفصلة في التراث الليبي عن أهزوجة المطر الخالة، وهذا التداخل ظاهرة أصيلة في الفلكلور الشفوي العالمي. وينادي أطفال نفزاوة خالتهم بأن “تصبّ عصيدة بالرُبْ”، فيقع استبدال المعلول بالعلّة في انزياح بلاغي يُشار فيه إلى ماء المطر بالخيرات المتولّدة عنه. ثمّ بعد ذلك تأخذ الأهزوجة منحى هزليا فيه مغازلة لأمطار البشوشة “البشباشة” تربيجا وهدهدة لها وسخرية من شخصيتين: “القبّي” الذي لا نعرف له هوية وربما يكون من الأعيان والباشا الحاكم بأمره، وهما المحتكِران لخيرات الأرض.

يا مطر يا خالتي… المطر تصب عصيدة بالرُبْ

يا مطر صبّي صبّي صبّي على حوش القبّي

والقبي ما عنده عشا غير خبزة بالترشي

يا مطر يا بشباشة صبي على حوش الباشا

والباشا ما عنده شيء غير خبزة بالششّي

نجد نفس الأهزوجة في ليبيا ولكنها منفصلة عن “يا مطر يا خالتي” مع تغيير في الشخصية الأولى، حيث يعوّض “الرُبّي” (القبّي في نفزاوة التونسية) ولا يملك من متاع الدنيا شيئا في منزله غير قِطًّ صغير أو ما يعبّر عنه باللهجة العامية في تونس “اقطيطيس” يعوي متضوّرا جوعا مع المحافظة على شخصية الباشا الذي لا يمتلك إلا جدْيا ودائما بتعمّد قلب المقاييس بنفس النبرة الساخرة مع دعوة صريحة للمطر إلى التغيير والهدم لرموز التجبّر:

يا مطر صبي صبّي طيحي حوش الرُبيّ

والربّي ما عنده شي كان اقطيطيس يعوّي

يا مطر يا بشباشة غرقي حوش الباشا

والباشا ما عنده شيء كان دويره فيها جديْ

الباشا إحالة تاريخية على الوجود العثماني في جزء من شمال أفريقيا وعلى الزمن الذي بدأ فيه تداول هذه الأهازيج التي تعبّر عن تعلّق أهالي هذه المنطقة بالمطر الذي ذهبوا إلى حدّ تسمية بناتهم به “إمطيرة” و”نوّة”.

12