العرب والبحر.. قصة جمعت بين معاني الحياة والموت في الواقع والمجاز

للعرب قصة تاريخية خاصة مع البحر، تبدأ من البحث عن القوت ولا تتوقف عنداللغة والخيال الشعري. العلاقة القديمة مع البحر سجلها العربي في تراثه وتاريخه قولا وفعلا، إذ نظرت شعوب عربية عديدة إلى البحر بوصفه نقطة مركزية تمحورت حولها كل أنشطتهم، الاقتصادية والدينية والعسكرية والترفيهية، وهذا التميز لدى البعض من الشعوب العربية لم يحل دون إجماع كل العرب، حتى المقيمين منهم في فضاءات صحراوية، على أن البحر مرادف للحياة ولذلك وطنوا البحر في منطوقهم وتراثهم وعاداتهم وتقاليدهم.
الاثنين 2016/08/22
يظل البحر رمز الأمل والحياة حتى مع قوارب الموت

على عكس الصورة النمطية التي رسمت للعرب، خاصة في الغرب بربطهم كليا بالصحراء والجمل، يتصل العرب بصلات وثيقة مع البحر ومراكبه بقدر ارتباطهم بالصحراء، بل إنّ البحر والصحراء كثيرا ما يتكاملان ويتناغمان ويلتقيان في الأرض العربية في مشاهد طبيعية خلابة قل نظيرها في أصقاع العالم الأخرى. كما يرتبطان في اللغة حيث تُطلق كلمة بحر على الصحراء نفسها في تعبير “بحر من الرمال” دلالة على مدى شساعة المكان الصحراوي، كما تطلق على كلّ نهر عظيم مثل "بحر النيل".

قصّة العرب مع البحر في الواقع والمجاز وفي التاريخ والأسطورة طويلة لا يمكن أن تُروى في أسطر. لقد كان للعرب خاصة عرب الخليج في ما يُعرف اليوم بالإمارات والبحرين وعُمان دور متميّز وفعّال في بلورة علم البحار وفي تطوير تقنية صناعة السفن وما يتّصل بها من قلاع ورسوّ وأشرعة، وكان منهم رواد في تاريخ الإنسانية في المعرفة بالبحر والكشف عن مجاهله وأسراره، وأبرزهم أحمد بن ماجد (ت 906هـ) الذي ساعد فاسكو دي غاما على اكتشاف طريق جديد إلى الهند ولقبه البرتغاليون بـ"أمير البحر".

يحيل البحر في الثقافة العربيّة على معاني السعة والعظمة والكرم والفتوة، وتنتظم دلالاته المباشرة والحافة التي تنطق بها الأساليب البلاغيّة المنبثقة عنه ضمن ثنائية الحياة والموت الخالدة في الإنسان والحيوان والجماد على حدّ السواء.

استعار العرب البحر لرسم صورة الرجل المثالي لديهم كما يعبّر عن ذلك بيت المتنبي في مدح بدر بن عمّار: يا بدر، يا بحر، يا غمامة، يا***ليث الشرى، يا حمام، يا رجلْ.

حيث يتّضح هنا أنّ البحر باعتباره كناية عن الجود وقوّة الشخصية قد سبق كلّ الكنايات الأخرى، لينظمها كلّها حتّى تصبّ في قيمة الرجولة التي قفل بها الشاعر بيته لكونها لا تكتمل إلا بهذه الصفات جميعا. البحر من الرجال في المعجم العربي هو الواسع المعروف أو العلم أو الشأن والسلطان ولذلك أطلق العرب مثَل “جيفة لا تعكّر بحرا” للتعبير عن الأذى الصغير الذي يصيب رجلا عظيما، أمّا البحر من الخيل فهو سريع الجري شديد العدو.

لعرب الخليج دور متميز وفعال في بلورة علم البحار وفي تطوير تقنية صناعة السفن وما يتصل بها من قلاع ورسو وأشرعة

غير أنّ البحر الذي استعاره العرب كذلك لتنظيم خيالهم الإبداعي في مصطلح “البحران” دلالة على النظم والنثر وللتعبير بصفة خاصة عن العروض، أي "بحور الشعر" التي ضبطوا بها مخيلتهم الشعريّة، لا يرتبط فقط بمعان إيجابية تعبّر عن الحياة في زخمها وعنفوانها التي ليس ثمّة أفضل من الماء للتعبير عنها كما في إطلاق "بنات بحر" على السحائب الرقاق البيض التي تأتي قبل الصيف تنبئ بقدوم الغيث النافع في الخريف، وإنّما كذلك بمعان سلبيّة في مثل التعبير “اشرب من البحر” بمعنى متْ غيظا أو أكثر من ذلك في الدلالات المختلفة لفعل “بحَر” التي تتدرّج من السيء إلى الأسوأ وتبدأ بمعنى احتار وخاف من رؤية البحر مرورا باستعماله للتعبير عن الجدّ في العدو حتّى التعب والإنهاك والضعف وصولا في مثل القول “بحر لحمه” بمعنى هزل هزالا عظيما أو بحَر فلان بمعنى سقم بسبب مرض أصابه جعله لا يروى من ظمأ.

وبقدر ما استعمل العرب البحر لتنظيم علاقتهم بالواقع استعملوه لتنظيم علاقتهم بالخيال ليس في الأدب والشعر فحسب، وإنّما في الأحلام أيضا حسب التفسير المنسوب إلى ابن سيرين، حتّى وإن كان هذا التفسير هو في الحقيقة تفسير للواقع بما في ذلك السياسي منه أكثر ممّا هو تفسير للحلم. تدل رؤية البحر في المنام على الرئاسة والسلطة العادلة "سلطان عادل على خُلُق عظيم" يحمي الأمة ويجزل لها العطاء، وأمواجه هم رجاله الذين يتبعونه في حججه وصولاته وأوامره.

بقدر ما خبر العرب هيجان البحر بما هو دلالة على الفتنة، فقد خبره الأجداد في الاتجار والبحث عن اللؤلؤ وفي طريقهم إلى الحج
وكما يدل البحر الهادئ على هدوء الأحوال واستقرار المجتمع والدولة، يدل البحر المضطرب على الفتنة الهائجة التي تطول الأمة، وسمك البحر الهائج هو أهلها الذين لا يرحم صغيرهم كبيرهم وغنيهم فقيرهم فيستحوذ البعض منهم على أموال البعض الآخر، فيهلكون جميعا، أمّا من يرى في منامه البحر قد جفّ، فإنه دليل على ذهاب الدولة، أو ذهاب السلطة إلى أيد تضيع البلاد، أو بسبب احتلال خارجي، وإذا رأى البحر وقد عاد له ماؤه، فإنه دليل على عودة الدولة بعد فتنة أو نزاع تمر بها لفترة.

وبقدر ما خبر العرب طويلا هيجان البحر واضطرابه، بما هو دلالة على الفتنة في تاريخهم الطويل القديم والمعاصر، خبره الأجداد في الاتجار وبحثا عن اللؤلؤ والمحار في أعماق البحار وفي طريقهم إلى الحجّ.

يصف الرحالة الأندلسي ابن جبير حاجا هول البحر وهو في خضمّ المتوسط على مشارف صقلية عام 1183 “وفي ليلة الأربعاء عصفت علينا ريح هال لها البحر.فعظم الخطب واشتد الكرب… فبقينا على تلك الحال الليل كله، واليأس قد بلغ منا مبلغه، وارتجينا مع الصباح فرجة… فجاء النهار، بما هو أشد هولا وأعظم كربا، وزاد البحر اهتياجا واستشرت الريح والمطر عصوفا، فأخذت الريح أحد الأشرعة ومزقته وكسرت خشبته. فحينئذ تمكن اليأس من النفوس (طيلة النهار) حتى جن الليل (قضيناه) مترددين بين الرجاء واليأس. فلما أسفر الصبح أقشعت السحاب وطاب الهواء وأضاءت الشمس وأخذ في السكون البحر. فاستبشر الناس وعاد الأنس وذهب اليأس".
12