التورنت جنة القراصنة والمستخدمين

إسطنبول - أعلنت السلطات البولندية قبل عدة أيام أنها ألقت القبض على الشاب الأوكراني أرتيم بولين، الذي يُعتقد بأنه مؤسس موقع “كيك أس تورنت”، والذي يعتبر واحداً من أهم مواقع تبادل الملفات “تورنت” جماهيرية على شبكة الإنترنت، وذلك بعد مطاردة طويلة، سعت السلطات الأميركية خلالها إلى إغلاق الموقع المتهم بترويجه غير القانوني للملفات الرقمية المحمية وفق قوانين حماية الملكية.
هذه الحادثة هي خطوة إضافية في سياق الحرب المديدة بين قراصنة الإنترنت وبين الحكومات، التي سعت إلى منع هذه التجارة التي تكبّد أصحاب الحقوق كل عام العدة من المليارات من الدولارات، كخسائر ناتجة عن توزيع المنتجات الإبداعية والفكرية والبرمجية وغيرها بشكل مجاني، دون الحصول على موافقة أصحابها أو منتجيها.
وفي تفاصيل الأخبار فإن عملية القبض على بولين لم تكن لتتم لولا قيام شركتي آبل وفيسبوك بتسليم بياناته إلى السلطات الأميركية، بعد أن تسببت عملية شراء تمت عبر متجر آيتونز بالمساعدة في كشف شخصية الشاب البالغ من العمر 30 عاماً، والذي سبق له أن قام بإنشاء شركة وهمية في أوكرانيا تدعى “سيبر تونيات”، عمل موظفوها على تشغيل موقع “كيك أس” بشكل سري، وإدارة تبادل الملفات.
قضية أمن جنائي
الأمن الجنائي الأميركي كان قد حصل سابقاً ومن خلال متابعته لعناوين برتوكول الإنترنت “آي بي” المستخدمة لاستضافة أسماء نطاقات الموقع على معلومات أولية حول شخصية بولين، وجهت أنظار المحققين إلى شركة تزويد خدمات إنترنت كندية، كشفت خوادمها عن بيانات وملفات عدة. بما في ذلك رسائل البريد الإلكتروني ومعلومات المستخدم.
لكن المعلومات الحاسمة جاءت من خلال قيام بولين باستخدام حساب بريد إلكتروني يتبع لشركة آبل، للقيام بعملية شراء من متجر آيتونز عبر عنواني “آي بي”، حيث جرى استخدام تلك العناوين للوصول إلى حساب فيسبوك يروّج للموقع، وأشارت الأخبار المتناقلة حول القضية إلى العثور في حساب البريد الإلكتروني الخاص ببولين والتابع لشركة آبل على العشرات من الرسائل التي تذكر موقع تبادل الملفات، بما في ذلك رسائل تخص عمل الموقع وصيانته.
وقد قام المحققون بتتبع عناوين بولين في أوكرانيا، ولكنهم فوجئوا بإعلان السلطات البولندية بإلقاء القبض عليه على أراضيها. فطالبت حكومة الولايات المتحدة بتسليمه لها، بعد أن وجّهت إليه تهماً كثيرة، كان أبرزها قيامه بالتعدي على حقوق المؤلفين والقيام بعمليات غسيل أموال.
ولكن اللافت في القضية أنه ورغم قيام السلطات الأميركية بالاستيلاء وإيقاف سبعة أسماء نطاقات تابعة للموقع، إلا أنه عاد للعمل بعد أن اختفى عن شبكة الإنترنت لعدة أيام فحسب.
المحققون يقولون إنهم قاموا بتتبع عناوين بولين في أوكرانيا، ولكنهم فوجئوا بإعلان السلطات البولندية بإلقاء القبض عليه على أراضيها. لكن حكومة الولايات المتحدة طالبت بتسليمه لها، بعد أن وجهت إليه تهما كثيرة، كان أبرزها قيامه بالتعدي على حقوق المؤلفين والقيام بعمليات غسيل أموال
التورنت والقراصنة
شكّل إطلاق بروتوكول “بت تورنت” في العام 2001 على يد المبرمج برام كوهين، البداية الأولى لتقنية جديدة في سياق البحث عن آلية سهلة لتبادل الملفات عبر شبكة الإنترنت، ولا سيما تلك الملفات ذات الحجم الكبير، التي يصعب على المستخدمين العاديين الحصول عليها وفق ما يستخدمونه من حزم الخدمة.
تقنية التورنت وبحسب تعريفها الأوّلي تقوم على مشاركة الملفات عبر الإنترنت ما بين مستخدمي الإنترنت والمسمى “الند للند” أو “النظير للنظير”، حيث يكون تبادل الملفات بين الأشخاص دون وجود وسيط عدا “التراكر”، وهو برنامج عادة ما يكون مستضافا على سيرفر، يتكفل بتنسيق عملية الاتصال ما بين النظراء (المستخدمين). كل نظير يقوم بتحميل البيانات فهو في نفس اللحظة يرفع البيانات إلى النظراء الآخرين.
وتختلف هذه التقنية عن الطرق السابقة في تحميل الملفات، بكونها تقوم على وجود الملفات على أجهزة المستخدمين الذين يتشاركونها، وليس على خوادم المواقع العادية أو خوادم “أف تي بي”.
ومن أجل الحصول على الملف الذي يرغب المستخدم بمشاركته فإنّ عليه القيام باستعراض الإنترنت لإيجادها، ثم يقوم بتحميلها وفتحها بأحد البرامج الداعمة لصيغة التورنت مثل “يوتورنت” أو “بيتكوميت” أو “بيت تورنت”، والتي تعرف بالعميل. حيث يوصله هذا البرنامج بالتراكر المسبق تحديده في ملف التورنت، فيتسلم قائمة بالنظراء الذين يتبادلون أجزاء ملفات التورنت المحدد، فيصبح المستخدم في هذه الحالة نظيرا هو الآخر يتشارك أجزاء الملفات مع أقرانه.
|
رواج هذه التقنية بين المستخدمين بسبب سهولتها، جعلها الفضاء الرحب لتبادل الأفلام السينمائية والبرامج التلفزيونية وألعاب الفيديو وألبومات الموسيقى، حيث بات يكفي قيام أحد المستخدمين بتحميل أحد الملفات لقيام الآخرين بمشاركته إياه.
وقد خلّف هذا الأمر كارثة كبيرة أحاقت بأصحاب حقوق ملكية هذه الملفات من شركات وأفراد، والذين قرعوا ناقوس الخطر، فقد بات هؤلاء يُسرَقون ليل نهار، وتحت مرأى وسمع الجميع، ولهذا فقد جنّدت الحكومات أقساما خاصة في الأمن الجنائي المحلي لمتابعة هؤلاء القراصنة، الذين كانوا ومازالوا يمتلكون قدرات عالية على التخفي في مجاهل الشبكة العنكبوتية.
يقف موقع “كيك أس” في أعلى قائمة أفضل مواقع التورنت في العالم، وتبلغ قيمة الموقع ما يناهز الـ54 مليون دولار، مع قدرته على تحقيق وارد إعلاني سنوي يتراوح بين 12 و24 مليون دولار، ويليه مباشرة في القائمة “بيرات باي”.
هذه القائمة الحديثة نسبياً لم تكن في أيّ يوم من الأيام ثابتة، ذلك أن عدداً كبيراً من مواقع التورنت قد جرى إيقافها والقبض على أصحابها، بسبب قيامهم بانتهاك حقوق الملكية، بعد أن جنّدت جمعية الأفلام الأميركية كل قواها القانونية من أجل دحر القراصنة عن عالم تسويق الأفلام.
الحرب على التورنت
الجمعية تضم في تحالفها مجموعة من أضخم أستوديوهات هوليوود وهي “وارنر بروس إنترتيمنت”، و”والت ديزني”، و”يونيفرسال بيكتشرز”، و”إن بي سي يونفرسال”، و”سوني بيكتشرز”، و”بارمونت”، و”فوكس فيلم”، وغيرها أيضاً. ولعل استعراض قائمة الشركات السابقة يوضح كيف أمست هذه الحرب خطيرة وحاسمة.
|
وبمراجعة لتاريخ الحرب على هذه المواقع، يحتاج المتابع للعودة إلى سلسلة طويلة من الأخبار عن عمليات المتابعة القانونية لها ولأصحابها، وكذلك الأخبار التي تتحدث عن إجراءات الشركات ومواقع البحث المتضافرة في سبيل إنهاء هذه التجارة غير القانونية.
ففي قائمة المواقع التي جرى إغلاقها سابقاً، تتحدث التقارير عن تعرض موقع “إيزوهنت” الذي ظل لفترة طويلة أفضل محرك بحث لملفات التورنت، إلى ضغوط قانونية بدأت في العام 2006 جعلت أصحابه يقومون بتغيير خوادمه. وتوقف بسببها الموقع عدة مرات، قبل أن تنتهي معاركه مع الجهات القضائية بقرار إغلاقه نهائياً في العام 2013، بعد أن نجحت جمعية الأفلام الأميركية في إقرار حكم قضائي نص على إغلاق الموقع بشكل نهائي، مع دفعه لغرامة تقدر بـ110 مليون دولار، وذلك بسب اختراق الموقع لحقوق الملكية ونشر المحتوى على الشبكة، الأمر الذي أدّى لتضرر الكثير من الشركات الناشطة في قطاع السينما وتحمّلها لخسائر كبيرة.
وفي عام 2009 قررت إدارة موقع “مينينوفا” إغلاق مشاركة الملفات المقرصنة بشكل كامل، كما قامت بحذف كل روابط الملفات القديمة المقرصنة بعد أن هدّدها القضاء بغرامة قدرها 5 مليون يورو، ولم تسمح المحكمة للموقع بالاستمرار إلا بعد أن غيرت إدارته أسلوب مشاركة الملفات بالخدمة، وجعله حصراً على بعض أعضاء موثوقين، منعاً لإتاحة مشاركة أيّ مواد مقرصنة بعد ذلك، حيث كان سابقاً بإمكان أيّ عضو مشاركة أيّ مواد من حاسوبه مع الآخرين عبر الموقع.
وفي العام 2012 قرر أصحاب موقع “بيت جونكي” إغلاقه إلى الأبد بعد عمله لمدة سبع سنوات، في خطوة احترازية في ظلّ مطاردة الأجهزة الأمنية لأصحاب مواقع التورنت.
وفي العام ذاته أغلقت السلطات الأوكرانية واحداً من أبرز مواقع التورنت هو “دايموند” بعد أن داهم المحققون الحكوميون مقر الموقع ومركز البيانات فيه “كولوكال” الذي يستضيف الأجهزة الخادمة، وختمته بالشمع الأحمر.
وفي العام الماضي قام فريق قرصنة الأفلام الشهير “ييفي” بإغلاق موقعه “واي تي أس” منهياً مغامرة أعضائه التي بدأت في العام 2010 حيث قاموا خلالها بإصدار ومشاركة أكثر من ستة آلاف فيلم مقرصن على التورنت، تم تحميلها مئات الملايين من المرات.
غير أن الحكاية الأبرز في هذا السياق هي مسيرة موقع “خليج القراصنة” الذي مازال حتى اللحظة يتربع على قائمة مواقع التورنت في العالم، وقد تحوّل من مجرد موقع لقرصنة الملفات إلى ظاهرة عالمية، حين قامت الحكومة السويدية بالقبض على مؤسسيه بعد مطاردة طويلة، وفي التفاصيل فقد تأسس هذا الموقع السويدي في 2003 بإدارة غوت فرايد سفارثولم وهانس فريدريك لينارت نايهوبيتر سندي. وفي العام 2006 قامت الشرطة السويدية بإغلاق خوادمه، الأمر الذي أدّى إلى إقفال الموقع لمدة ثلاثة أيام، لكنّه سرعان ما عاد إلى نشاطه، لتتنامى جماهيريته وسط المعارك القانونية حول الأعمال التي يقوم بها، وفي العام 2014 وبعد أن تم إلقاء القبض على مؤسسيه جميعهم، قامت السلطات السويدية بإغلاق مقراته كلها ومصادرة كافة الأجهزة والخوادم الخاصة به، وقد تطوّع الكثيرون حول العالم للنضال من أجل بقاء الموقع، بعد أن قام بإجراء عدة نسخ احتياطية في أماكن مختلفة، فتم إنشاء العشرات من المواقع التي حملت نفس الاسم وضعت نصب عينيها القيام بنشر المحتوى غير القانوني، وقد سبق هذا كله إطلاق فيلم وثائقي في العام 2013 حمل عنوان “خليج القراصنة بعيداً عن لوحة المفاتيح” من إخراج سايمون كلوز، والفيلم مبني على قصة حياة مؤسسي الموقع.
وفي سياق الحرب على هذا الموقع قامت شركة مايكروسوفت في العام 2012 وبحسب تقرير نشره موقع “تورنت فريك” المتخصص بمتابعة أخبار خدمة “بت تورنت” بدعم مشروع لشركة روسية تُدعى “بيرات باي” هدف إلى القضاء على قرصنة المواد المحفوظة بحقوق النشر، والتي تتم عبر هذه الخدمة. وتعمل التقنية التي طورتها هذه الشركة على خداع كلّ من أجهزة الكمبيوتر التي تنشر ملفات تورنت معينة، وتلك التي تستقبلها بحيث يستحيل على الطرفين إتمام العملية، وبهذه الطريقة تستطيع التقنية إحباط عملية التحميل.
ومن جهتها قامت شركة غوغل في العام 2011 بإزالة أشهر مواقع التورنت من بينها موقع خليج القراصنة من خدمة الإكمال التلقائي والبحث المباشر، وفي منتصف العام 2013 قامت الشركة بالتوقيع مع شركة مايكروسوفت على وثيقة حملت اسم “دليل أفضل الممارسات للشبكات الإعلانية للتعرف على القرصنة والتزييف” للإشراف على الشبكات الإعلانية التي تعرض إعلانات تروّج لمواقع القرصنة أو منتجات مقرصنة على الإنترنت، وجاء في ثنايا الوثيقة أن الشركتين ستقومان بتتبع وتنفيذ المبادئ التوجيهية التي تتضمن الإشعار وحذف الإعلانات المخالفة وذلك للمساعدة على خفض التكاليف الإجمالية للقرصنة والسلع المزيفة التي يتم بيعها على الإنترنت.