الثقافة العراقية الموازية

الجمعة 2016/07/29

عانى المثقف العراقي لعقود طويلة من عقدة الخضوع للدولة أو نظام الحكم وسياساته المرسومة مسبقا للنشاط الثقافي منذ ستينات القرن الماضي حتى يومنا هذا، ولم يستطع، لا بشكل فردي ولا عن طريق المنظمات الثقافية المختلفة التي تمثله، الخلاص من تلك الهيمنة الأبوية المفترضة، لا سيما وأن النظام السياسي الجديد في العراق نفسه قد اكتسب كافة أساليب وآليات عمل الأنظمة السابقة في إدارة الثقافة. فقد حافظت وزارة الثقافة العراقية الحالية على آلية العمل القديمة نفسها مع إفراغ المؤسسات الثقافية من محتواها وأهدافها الفعلية، فنشأت لدينا دائرة للأزياء لا مصممين فيها ولا أزياء ولا جمالية معينة، ودائرة لثقافة الطفل لا وجود لثقافة الطفل فيها، وأخرى للسينما والمسرح لا تمتلك أي قاعة عرض مسرحي أو سينمائي، ودائرة شؤون ثقافية لا علاقة لها بالشؤون الثقافية وإصدار الكتاب.

وعلى الرغم من بروز عدد من التمظهرات الثقافية اللافتة بعد الاحتلال كنتيجة للفعل الثقافي العفوي المقاوم، مثل ظاهرة شارع المتنبي للثقافة وبعض العروض المسرحية أو الشعرية المتمرّدة، إلا أن الجانب الخاص بالدولة العراقية ظل هزيلا ومتخلّفا وعاجزا عن المواكبة، بعد أن خضعت الثقافة عموما لمحاكمة غير منصفة وفق رؤى القوى السياسية الظلامية الجديدة التي هيمنت على مفاصل القرار في العراق، وعلى سبيل المثال ظل مسرح الرشيد العريق محطّما منذ قصفه بواسطة طائرات الاحتلال الأميركي في العام 2003 حتى يومنا هذا، فقط لكونه يحمل اسم “الرشيد” وحسب.

لقد هالتني الرؤية المنحطّة للثقافة التي يحملها بعض المسؤولين الحاليين حين سمعت رأي وزير سياحة سابق بالمواقع الأثرية التي يزخر بها العراق عندما عدّها هياكل للشرك ينبغي هدمها وإهمالها وعدم تشجيع السياحة إليها واقتصار عمل الوزارة على ما أسماه السياحة الدينية فقط، ولعل ما يدعو إلى الإحباط أكثر هو أن مثل هذه الرؤى المتخلفة مازالت معششة في رؤوس بعض المسؤولين الثقافيين الحاليين.

لقد استحوذت وزارة الثقافة والمؤسسات التابعة لها على الأموال التي تخصصها الدولة ضمن ميزانيتها السنوية للنشاطات الثقافية، بعد أن راحت تهدر تلك الأموال على شكل رواتب لجيش العاطلين من الموظفين في الوزارة الذين جاوز عددهم الأربعة آلاف موظف، بينما راح المثقفون الحقيقيون يجتهدون بطرقهم الخاصة من أجل توفير المال بشكل شخصي لمواصلة مشاريعهم الإبداعية، في الوقت الذي تمظهرت فيه الكثير من الممارسات الإبداعية الناجحة للعراقيين في الخارج وفق اجتهادات شخصية بحتة لتقديم الثقافة والإبداع العراقيين.

وعلى سبيل المثال تمكنت فرقة طيور دجلة الموسيقية بقيادة المايسترو علاء مجيد في السويد من إحياء الأغاني والتراث الموسيقي العراقي وتقديمه بطرق وأساليب جديدة للعالم من دون الحاجة إلى أموال أو دعم من وزارة الثقافة العراقية ودائرتها الموسيقية، ولعل الأمر ينطبق أيضا على فرقة الفنانة الكبيرة فريدة محمد علي والفنان محمد حسين كمر في إحياء المقام العراقي، والجهد الفني الممتاز الذي تقدمه الفنانة العراقية الشابّة بيدر البصري، ومصممة الأزياء العراقية هناء صادق، ودار مخطوطات للنشر والتوزيع، ونادي السينما العراقي في لندن، وغيرها الكثير من الممارسات الفنية والموسيقية والأدبية الأخرى التي كان من المفترض أن تقوم بها أو تدعمها على الأقل وزارة

الثقافة العراقية التي تنشغل بالاستحواذ على الأموال من دون الالتفات إلى التأسيسات الثقافية العراقية الكبرى التي راحت تتبدّد منذ سنوات عدة، مثل اختفاء الفرقة القومية للفنون الشعبية التي كانت رائدة في المنطقة والعالم، والفرقة القومية للتمثيل التي حملت راية التجديد المسرحي الشعبي والتجريبي على مدى عقود وغيرها الكثير.

كاتب من العراق

14