هل ارتبط العرب تاريخيا وثقافيا بالعصا إلى درجة عجزهم عن الحكم دونها

يتساءل العرب اليوم بعد أن دبت الفوضى في مجتمعاتهم إثر ثورات الربيع العربي باسم الديمقراطية، وبعد أن انفلتت غرائز البعض منهم من عقالها لممارسة العنف الأكثر توحشا: هل ينبغي رفع شعار العصا لمن عصى لاستتباب الأمن أم الأفضل المناوبة بينها وبين الجزرة أو بينها وبين المزمار كما يفعل رعاة العرب على مرّ التاريخ؛ رعاة غنم ورعاة بشر على حدّ السواء؟ للعصا قصّة فصولها لا تنتهي في الثقافة العربية وتتجدّد روايتها مع كلّ عصر. ولعلّ العصا برمزيتها المكثّفة لم تعد لتحتلّ مكانة هامة في الخطاب السياسي العربي المعاصر، كما عادت أكثر من أيّ وقت مضى في السنوات الأخيرة حيث طرحت أسئلة كثيرة من قبيل: هل أن الدكتاتورية هي قدر الشعوب العربية؟ وهل تتخذ العصا من الأهمية الثقافية عند العرب إلى درجة أنه لا يمكنهم تسيير شؤونهم السياسية دون الاعتماد عليها كوسيلة للحكم؟
الاثنين 2016/07/25
العراقيون استخدموا العصا "المكوار" في ثورة العشرين

تقول العرب: العصا من العصية، والأفعى بنت حية، تريد أن الأمر الكبير يحدث عن الأمر الصغير، ويقال: طارت عصا فلان شِقَقا، ويقال: فلان شق عصا الطاعة، إلى غير ذلك من الأقوال في العصا التي يطول عرضها.

فللعصا مكانة كبيرة عند العرب، وشأن عظيم في التراث العربي، حيث تلخص تاريخ العرب وثقافتهم، وهي ترتبط بأبعاد سياسية واجتماعية ودينية وأنتروبولوجية تبين حضورها الرمزي في الذاكرة الجماعية، وحضورها الفعلي في الماضي لتعبّر عن السلطة والجاه من جهة وعن نمط عيش وثقافة من جهة أخرى، فهي عصا الراعي بمفهوميه؛ راعي الغنم وراعي الناس حاكمهم ورئيسهم.
قيل لابن الأعرابي “ما تفاريق العصا؟”، قال “العصا تقطّع ساجورا، وتقطّع عصا الساجور فتصير أوتادا، ويفرق الوتِد فيصير كلُّ قطعة شِظاظا، والسواجير تكون للكلاب والأسرى من الناس، فإذا كانت العصا صحيحة ففيها من المنافع الكبار والمرافق الأوساط والصغار ما لا يحصيه أحد، وإن فُرقت ففيها مثلُ الذي ذكرنا وأكثر، فأيّ شيء يبلغ في المرفق والرد مبلغَ العصا؟”.

العصا من العصيّ ولعلّ دلالتها اللغوية وارتباط جذرها (عصي) بالعصيان جعلها لصيقة بما يدلّ على العصيان ونقيضه الطاعة، وكأن العصا جعلت للطاعة لمن تمرّد وأراد العصيان، وهذا ما يلخصه القول الشهير “العصا لمن عصى”، وقد جاء هذا المعنى من رواسب استعمالات العصا لدى العرب قديما، التي ارتبطت تحديدا بالبداوة، وقد كان للعصا حضور قوي في المحيط البدوي والنظام القبلي، إذ ترافق العصا راعي الماشية وسيد القوم والمسافر في الصحراء. فلم تكن العصا مجرّد عصا بل أكثر من ذلك، فهي أداة للقتال والدفاع عن النفس، وهي كما يقول الجاحظ في كتابه البيان والتبيين، الذي خصص فيه بابا كبيرا للعصا ووظائفها ومآربها الكثيرة على حدّ تعبيره “العصا للأنعام والبهائمِ العظام، والسوط للحدود والتعزير، والدرة للأدب، والسيف لقتال العدو والقَود”، مميزا بينها وبين شبيهاتها.

وما إطناب الجاحظ في وصف العصا إلا دليل على مكانتها وأهميتها لدى العرب، فقد ذكر أهمية العصا ومدى الحاجة إليها “من ذلك التحمل للحية، والعقرب، وللذّئب، وللفحل الهائج، ولعير العانةِ في زمن هيج الفُحول، وكذا فحول الحُجور في المُروج، ويتوكّأ عليها الكبير الدالف، والسقيم المدنف، والأقطع الرجلِ، والأعرج، فإنها تقوم مقام رِجل أخرى”. فالعصا هنا تغدو مكونا أساسيا للإنسان وكأنها يد أو رجل إضافية لا يمكن الاستغناء عنها.

للعصا وظائف عديدة تعكس نفعها وجدواها كما ذكرها الجاحظ فهي “تنوب للأعمى عن قائده، وهي للقصار والفَاشِكار والدباغ، ومنها المِفأد للملَّة والمحراك للتنور، وهي لدق الجِصّ والجِبس والسمسم، ولِخبط الشجر، وللفَيج وللمكارِي، وهي تعدل من ميل المفلوج، وتقيّم من ارتعاش المُبرسم، ويتخذها الراعي لغنمِه، وكلُّ راكب لمركَبِه، وتكون إنْ شئت وتِداً في حائط، وإن شئت ركَزا في الفضاء وجعلتها قِبلةً، وإنْ شئت (وضعت عليها قطعة من القماش) لتصير مِظلَّة تستظلّ بها من حرّ الشمس، وإنْ زِدت فيها شيئا كانت عكَّازا، وإن زدت فيها شيئا كانت مِطْردا، وإن زدت فيها شيئا كانت رمحا، والعصا تكون سوطا وسلاحا، وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يخطُب بالقضيب، وكفى بذلك دليلا على عِظَم غَنائها، وشرف حالها، وعلى ذلك الخلفاءُ وكبراءُ العرب من الخُطباء”.

العصا في تاريخها الطويل كانت أداة للسيطرة والهيمنة لذلك أرادها الخطباء أن تكون لهم معينا وسندا

فما تقوم به العصا من وظائف لا يرتبط فقط بالفعل والحركة بل كذلك بالقول واللفظ، وهو ما أشار إليه الجاحظ في قوله “حمل العصا والمخصرة دليل على التأهب للخطبة، والتهيّؤ للإطناب والإطالة، وذلك شيء خاص في خطباء العرب، ومقصور عليهم، ومنسوب إليهم”، وما يقال على الخطيب يقال على الحاكم أو الراعي بمفهومه السياسي أو الزعيم، فمنهم من يحمل العصا باعتبارها رمزا للوجاهة والسلطة، ولما كانت العصا في تاريخها الطويل أداة للسيطرة والهيمنة فقد أرادها الخطباء أن تكون لهم معينا وسندا، تساعدهم على إبلاغ رسالتهم والإقناع بها. فهدف الخطيب هو التأثير على المستمعين إليه وشدّ انتباههم واستمالة قلوبهم وعقولهم بحججه الدامغة الصلبة صلابة العصا التي يمسكها بيده، وكأن العصا هي التي تحدثهم بقدر ما يحدثهم صاحبها فيخشونه ويخشونها، وهكذا تجتمع لدى الخطيب سلطة الكلام وسلطة العصا ومثله يفعل مؤدّب الصبيان ومعلّمهم.

وعصا المؤدّب عريقة في التاريخ وقلّما وُجد مؤدّب دون عصا وهي عادة قديمة عرفتها العديد من شعوب العالم بما في ذلك العربية، ومازال البعض من المربين في عصرنا يحافظ عليها رغم عزوف التعليم الحديث عنها.

وللعصا دلالات عديدة في الحلم ترتبط برموزها وحضورها في المجتمع، فهي تدل في التفسير المنسوب إلى ابن سيرين على رجل حسيب منيع، ومن رأى أن بيده عصا فإنه يصل إلى مطلبه، ويظفر بعدوه، فإن كانت مجوفة وهو متكئ عليها، فإن ماله يذهب. وإن رأى أنها انكسرت وكان واليا عزل، وإن كان تاجرا أذهب الله تجارته. ومن رأى أن عصاه انكسرت مرض مرضا شديدا.

فما وقع تفسيره في المنام له علاقة وطيدة بوظائف العصا في الواقع وما ترمز إليه من سلطة وقتال أو ضرب وموت لتشكل العصا رمزا من رموز السلطة والجاه والفحولة، ولذلك نفهم السبب الذي جعل العرب قديما تقول في مديح الرجل الجَلْد، ذلك الفحلُ لا يقرع أنفه، وهذا كلام يقال للخاطب إذا كان على هذه الصفة، لأنّ الفحل اللئيم إذا أراد الضراب ضربوا أنفه بالعصا.

للعصا مكانة متميّزة في المخيال العربي الإسلامي وفي ثقافة الديانات التوحيدية، ليس لأهميتها الاجتماعية فحسب، وإنما لمكانتها المقدسة أيضا، والأمثلة كثيرة على ذلك، لعلّ أكثرها شيوعا هي عصا موسى فهي في بعدها الديني تتسم بالقداسة باعتبارها الأداة الخارقة التي ظهرت فيها معجزته.لقد فقدت العصا اليوم البعض من وظائفها ومكانتها بسبب تغير الظروف، ولاستبدالها بوسائل تكنولوجية حديثة، فانحسر وجودها في الواقع ولكنّها لم تفقد حظوتها في المجاز والرمز، فمازالت تسجّل حضورها بقوّة في وصف السلوك السياسي “العصا والجزرة”، تارة تُفضّل على الجزرة وطورا يقع تفضيل الجزرة عليها.

12