النسوية العربية في الدرجة صفر
مرّت منذ أسابيع قليلة 30 سنة على رحيل سيمون دوبوفوار (1908-1986)، الكاتبة الفرنسية وواحدة من أشهر منظّرات النّسوية في العالم، خصوصاً في كتابها الأشهر«الجنس الآخر» (1949) الذي دافعت فيه عن حقّ المرأة، بغض النّظر عن عرقها أو ديانتها، في المساواة مع الرّجل، وردّت فيه على الأساطير التراتبية التي كانت في الماضي (من ما قبل التّاريخ إلى القرن العشرين) تقلّل من قيمة المرأة في المجتمع.
وفي ذكرى رحيلها يهمّنا أن نتساءل عن واقع «النّسوية» في العالم العربي، مع العلم أن كاتبات عربيات، في العقود الماضية، استلهمن دروس سيمون دوبوفوار، كما أن كتابها نفسه حظي بشهرة مرموقة بعد ترجمته إلى العربية، فأين وصلت نضالات بنات وحفيدات دوبوفوار، في الضّفة الجنوبية من البحر الأبيض المتوسط؟
الأحداث التي عرفتها المنطقة العربية، في السّنوات الخمس الماضية، من ثورات وانقلاب على الثّورات، من ترحيل لشعوب وتجويع لأخرى، لم تسمح بالتّفكير في موضوعات مثل موضوع «النّسوية العربية»، لكن ضمن هذه المخاضات المتعدّدة، وحالة التّشنج الحاصلة، يمكن أن نتوقّف لحظة ونتأمّل ما وصلت إليه المرأة العربية، في نضالاتها من أجل المساواة. لهذا الغرض، وللإجابة عن بعض الأسئلة المحيطة به، لن نجد دراسات كافية ولا معلومات تفيد الباحث، الأدب وحده يتكفّل بلعب دور في سدّ الفراغ، ومنحنا صورة أوضح عما يحصل في الدّاخل وفي الخفاء. ورواية «أن تحبّك جيهان» (الدّار المصرية اللبنانية، 2015) للمصري مكاوي سعيد، هي واحدة من الرّوايات القليلة التي كشفت عورة النّسوية في مصر تحديداً، ووثّقت للواقع الصّعب الذي تعيشه المرأة المصرية، والذي لا يختلف عن حال نظيراتها في دول شقيقة، حيث «الخضوع» صفة أساسية من يومياتها.
لو أن مكاوي سعيد غيّر عنوان الرّواية إلى «خنوع» أو واحدة من المرادفات الأخرى للكلمة ذاتها لكان الأمر منطقياً، فالرواية تحكي عن نساء مثقّفات، متحرّرات في الظّاهر، وخانعات في الباطن، نساء ثرن ضد السياسة وضدّ تراكمات العقيدة، لكنهن قبلن العيش تحت ظلّ البطريركية، نساء في تناقض مع أحلامهن، يتخفين في العوالم الافتراضية هرباً من خيباتهن في الحياة الواقعية، يفعلن كلّ شيء للنجاح في حياتهن المهنية، لكنهن لا يتخلين عن السيّر تحت أعين رجال وطاعتهن.
ربما لن ينتبه قارئ عادي لخصوصيات رواية «أن تحبّك جيهان»، فغالبية المراجعات التي نشرت، هنا وهناك، تتقاطع في نقطة واحدة: أن المؤلف مكاوي سعيد «حكّاء»؛ يسرد القاهرة بأدقّ تفصيلاتها وكفى، كما لو أنه أسند إلى نفسه مهمة مواصلة السّرد ذاته، الذي بدأ فيه قبله نجيب محفوظ، لكن في الحقيقة ما حملته الرّواية أكثر من ذلك، هي أشبه ما تكون بنص ﻟ«مارسيل بروست» بالعربية، مع تغيير باريس بالقاهرة، فمكاوي لا يهتم كثيراً بحبكة واضحة ليبني عليها القصّ، لا يجعل من الحبكة مركزاً، بل يشتغل أكثر على ثيمات: الفنّ، المعمار، مكانة وسائط التّواصل في الحياة الجديدة للنّاس، دون أن يغفل عن ثيمات إنسانية: الحبّ، الخيانة، الولاء، العصيان، إلخ..
لكن رغم ثراء النصّ بالحكايات، وسبره لأعماق الشّخصية المصرية، وعمقه (فالرواية ذاتها تستلزم نفسا طويلا لإتمامها، تستلزم قراءة ماراثونية) فإنه -ربما- لن يعجب «مناضلات نسوية» لأنه جاء غير مهادن لحالات المرأة، من خلال رسم شخصيتي رنا وبسمة، وخضوعهما لفؤاد وخيري، وكذلك جيهان التي تلعب على النّقيضين: امرأة مبدعة ومتحرّرة، لكنها غير قادرة على قطع حبل سريّ يصلها بالبطريركية السّائدة في البلد.
مكاوي سعيد يبدو أنه قال كلّ شيء عن القاهرة في روايته الأخيرة وأتمّ مهمته كـ«سارد»، لكنه فتح قوساً ولم يغلقه حول النسوية العربية، تحدّث من خلال البطل أحمد الضوي عن انتصاراته القليلة، وخساراته الكثيرة، والأهمّ من ذلك أنه تحدّث على ألسنة نسوة وقال ما يتمنعن عن قوله من خضوع فُرض عليهن، وفشلن في التّحرّر منه، يحدث هذا بعد ثلاثين عاماً على رحيل مناضلة ألهمت عربيات: سيمون دوبوفوار.
كاتب من الجزائر