البث المباشر ميزة تهدد الخصوصية تتنافس الشركات في إتاحتها

إسطنبول- أعلن موقع يوتيوب قبل أيام عن إطلاقه لخدمة البث المباشر عبر تطبيقاته الخاصة بالهواتف الذكية، في مرحلة تجريبية تتيح الأمر لبعض منتجي المحتوى المرئي، سيتم في نهايتها السماح لجميع المشتركين باستخدام الميزة. وتبعاً لهذا الإعلان فإن يوتيوب يمضي في ذات الخطوات التي سار بها موقع فيسبوك الذي أطلق الخدمة ذاتها قبل عام تقريباً للمشتركين أصحاب الحسابات الموثقة، ثم عاد ليجعلها متاحة للجميع تقريباً في الشهر الرابع من هذا العام 2016.
هذا الإعلان هو آخر الوقائع المعلنة في مسيرة المنافسة بين شركة غوغل مالكة يوتيوب وبين فيسبوك. ورغم أن هذا الأخير يبدو متقدماً على منافسه في المبادرة وفي الخطوات، إلا أن المسألة تأخذ أبعاداً أكبر من مجرد المنافسة، فكلاهما يدرك أن المنتجات التي يقدمها أحدهما، لا بد ستصبح متوفرة لدى الطرف الآخر. إذ أن حاجات المستخدمين، وكذلك سُعار السوق لا يتيح المجال للتراخي، الذي يعني بشكل أو بآخر فقدان جزء من سوق الإعلانات، ما سيؤدي إلى خسارة مالية بحجم معين.
ولهذا فإن إيقاع إطلاق الخدمات يبقى محكوماً بالمسألة الاقتصادية في إطاره العام، ولكن هل التفت أحد هذين المتنافسين ومعهما اللاعبون الآخرون في السوق إلى الأبعاد الاجتماعية والسيكولوجية والأمنية لهذا الانفجار في الخدمات، وهل يدرك هؤلاء إلى أيّ عتبة يمضون بمسألة الخصوصية؟
البث المباشر في خدمة السياسة
|
الأسئلة التي يطرحها المحللون الذين يبحثون في أثر التطورات التقنية المتاحة بين أيدي عموم المستخدمين، لا تتوقف عند الحصيلة الإيجابية التي ترى بأن تمكين المستخدمين من الحصول على تقنيات كانت محصورة بيد الوسائل الإعلامية سيعزز من قدرة هؤلاء على المساهمة في زيادة المحتوى البصري بشكل متنوع، وسيقوّي الحريات الشخصية، ويعطيها إمكانيات مضافة إلى تلك التي حازتها من خلال تحويل مواقع التواصل الاجتماعي إلى منابر عامة، يستطيع الجميع المشاركة فيها.
هنا يستطيع الجميع تذكر ما جرى منذ بداية هذا العقد على المستوى السياسي، حيث مكّنت خدمة البث المباشر ملايين الناشطين حول العالم من نقل الاحتجاجات السياسية والتظاهرات التي قاموا بها في شوارع مدنهم عبر تطبيقات خاصة بهواتفهم الذكية، عبر الاستفادة من خدمات مواقع وتطبيقات مثل “جو لايف” و“بمبسر” و“جستن تي في” وغيرها.
وهكذا كان البث المباشر الشّعبي العفوي غير الاحترافي، الذي تلقّفته القنوات الفضائية وأعادت بثه على الهواء مباشرة، يوحّد العيون حول العالم؛ فمن احتجاجات حركة “احتلوا وول ستريت” في الولايات المتحدة، التي سبقتها احتجاجات الربيع العربي مروراً بمظاهرات المدن والقرى التونسية والمصرية والليبية والعراقية واليمنية والسورية، كان البث المباشر يغير طريقة تعاطي الوسائل الإعلامية والحكومات على حدّ سواء، مع فكرة الاحتجاج الجماهيري.
لكن مؤديات النقلة التقنية الكبيرة التي جرت العام الماضي، والتي جعلت هذه التقنية أسهل وأيسر ممّا سبق، وبما جعل استخدامها أكثر حضوراً في أوساط المستخدمين العاديين، لا بد ستفضي إلى تحوّل أكبر على كافة المستويات بعد أن كانت محصورة بالحيز الإعلامي، الذي تعاطى معها على أنها نتيجة إيجابية للثورة التقنية في هذا المجال.
إرهاب على الهواء مباشرة
في المقابل لهذا التهليل، كان لا بد من تلمّس جوانب سلبية متعددة يشير لها المتابعون مع كل حادثة تتم فيها إساءة استخدام التقنية، وقد تعالت الأصوات غير مرة لتنبه إلى أن توفر إمكانية البث المباشر بهذا اليسر، سيخلق حافزاً إضافياً لدى المهووسين باقتحام الخصوصية، وكذلك دوافع ترويجية لدى المتطرفين الذين سيجعلون من الجرائم التي يرتكبونها مادة لهذا البث المباشر.
حادثة الهجوم الإرهابي على ضابط شرطة فرنسي في منتصف يونيو 2016، فتحت بوابة الأسئلة حول ما يجري، فقد قام عبدالله العروسي منفذ الهجوم ببث فيديو مباشر عبر صفحته الشخصية على فيسبوك أعلن فيه أنه ينفذ أوامر أبي محمد العدناني، المتحدث باسم تنظيم داعش، الذي دعا في تسجيل للمزيد من العمليات خلال شهر رمضان، وقد حمل الفيديو أيضاً دعوة العروسي لمتابعيه للسير على خطاه قائلاً “اقتلوا العاملين في السجون ومسؤولي الشرطة والصحافيين والنواب”.
وبحسب تقرير لوكالة رويترز فإن واقعة البث المباشر للعروسي لم تكن هي الأولى لإساءة استخدام تقنية البث المباشر، ففي أبريل 2016 وجهت اتهامات لشابة تبلغ من العمر 18 عاماً بعد أن بثت فيديو مباشر لاغتصاب صديقتها عبر تطبيق بريسكوب التابع لتويتر. وفي مايو صورت شابة في فرنسا لقطات حية وهي تلقي بنفسها تحت عجلات قطار وبثتها عبر بريسكوب أيضاً.
وعليه فإن عملية التحكم بما يجري بثه عبر الخدمة لا يمكن أن تكون مباشرة إلا من قبل المستخدمين أنفسهم، بينما يتم حذف المحتوى بعد أن يقوم مستخدمون آخرون بالتبليغ عنه. فهذه الشركات تستخدم بروتوكولات تسمح بإزالة المحتوى الذي ينتهك شروط الاستخدام الخاصة بها، تقوم على الطلب من المستخدمين الإبلاغ عن أيّ محتوى مسيء لمراجعته. لكنها لا تقوم بتنفيذ الأمر بسرعة إذ أن مراجعة المحتوى تتطلب وقتاً طويلاً قياساً بالكم الهائل الذي يتم نشره، وكذلك الكم الكبير لعمليات التبليغ، بينما تحتاج بعض الحالات من مثل حادثة العروسي التدخل السريع لإزالة الفيديو لتفادي نشره على نطاق واسع، حيث تمكن تنظيم داعش من الحصول على نسخة من التسجيل رغم قيام فيسبوك بحذفه، ليعيد نشره على نطاق واسع.
تمكين المستخدمين من الحصول على تقنيات كانت محصورة بيد الوسائل الإعلامية سيعزز من قدرة هؤلاء على المساهمة في زيادة المحتوى البصري بشكل متنوع، وسيقوي الحريات الشخصية، ويعطيها إمكانيات مضافة إلى تلك التي حازتها من خلال تحويل مواقع التواصل الاجتماعي إلى منابر عامة
متحدثة باسم فيسبوك وبحسب رويترز علقت على الحادثة بالقول “نفهم وندرك أن هناك تحديات فريدة عندما يتعلق الأمر بالمحتوى والسلامة في فيديوهات خاصية لايف. إننا ملتزمون بشدة بتعزيز فعالية التعامل مع البلاغات عن انتهاك المحتوى المباشر لمعايير مستخدمينا”.
هاجس الخصوصية
ولكن هل يكفي تصريحا الموقعين المتنافسين لإقناع المؤسسات الأمنية بأن الأمور تمضي على ما يرام؟ وهل يكفيان لإقناع الجمهور بشكل عام بأن الحرص على الخصوصية سيبقى أمراً ملحوظاً يحوز الأولوية في سياق تنافسهما لإتاحة كل هذا الدفق من المحتوى البصري أمام الجمهور؟
بين تطبيقات موقع فيسبوك ومع ظهور ميزة البث المباشر لدى المستخدمين، ظهرت في الشهرين الماضيين ميزة جديدة أيضاً حملت اسم “فيديو مباشر”، يمكن لجميع المستخدمين ملاحظتها واستخدامها، فهي تتيح لأيّ مستخدم وفي أيّ مكان على كوكب الأرض مشاهدة ما يتم بثه من فيديوهات مباشرة، ما يعني وبشكل مبسط إتاحة الإمكانية للجميع في أن يقوموا بالتلصص على ما يفعله آخرون، قرروا في هذه اللحظة استخدام ميزة البث المباشر.
|
هنا يمكن لمستخدم في شرق أسيا أن يرى ما يفعله البعض في الولايات المتحدة، والعكس صحيح، وفي الوقت الذي تتيح فيه الميزة للوسائل الإعلامية المرئية والمسموعة المجال لاستقطاب جمهور إضافي يسكن شبكة فيسبوك للتواصل الاجتماعي، فإنها تترك المجال مفتوحاً دون سيطرة أو رقابة للكثيرين ممن لا يدركون أنهم يعرّضون خصوصياتهم لخطر المتلصصين، خاصة وأن هناك فئة كبيرة من هؤلاء المستخدمين هم تحت السن القانونية (يتيح الموقع المجال للأطفال بعد سنة 13 التسجيل فيه)، وبالمقابل فإنه يخلق مساحة للمتلصصين أن يتابعوا كل شيء، فضلاً عن قدرة أيّ مستخدم يستعمل اسماً وهمياً على بث ما يريد.
وقريباً ستكون هذه الخريطة الفوضوية غير المسيطر عليها أمراً واقعاً على موقع يوتيوب الذي يحاول اللحاق بفيسبوك وتويتر وغيرهما من الشبكات التي تتيح الأمر للمستخدمين. وبينما يعتبر البعض أن مد هذه الخارطة على طاولة المستخدمين في كافة أصقاع العالم هو الأمر الطبيعي، ويظل ما تفعله شبكات التواصل الاجتماعي من تغيير في عقل الإنسان في بدايات الألفية الجديدة أمرا محيّرا.