المأكولات الرمضانية التونسية.. علامات انتماء واستحضار لوقائع التاريخ

اهتمت العديد من المؤلفات بالعادات والتقاليد التونسية في شهر رمضان منها كتاب “الهدية في العادات التونسية” لمحمد بن عثمان الحشايشي المتوفى في 12 نوفمبر 1912 الذي أشار فيه إلى “إكثار أهالي الحواضر والمدن من ألوان الطعام والحلويات في هذا الشهر الذي يصرفون فيه زيادة على العادة”. ما يذكره هذا المؤلف حول سلوك التونسيين الغذائي المرتبط بهذا الشهر في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ينطبق على بدايات هذا القرن، حيث نلاحظ مواصلة التونسيين لهذا التقليد وتمسكهم بهذه السنّة التي تجعلهم يحرصون بنفس القدر على إشباع نهمهم من العبادة والصوم نهارا، والتمتع بما لذّ وطاب من الأطعمة بعد الإفطار.
وتعتبر حلوى الزلابية والمخارق التي تُعدّ في الغالب خصيصا لشهر الصيام الأكثر شهرة على موائد الإفطار لدى العائلات التونسية لتجذرها في عمق العادات الرمضانيّة، منذ أن استطاع الأندلسيون أن يحملوا معهم ممّا خفّ وزنه وسهل حمله في هجرتهم القسريّة إلى المغرب العربي إثر سقوط الأندلس هروبا بجلودهم وبما حفظته ذاكرتهم من تقنيات المعمار والبستنة والري والطهو والتغذية.
وإذا كان من الصعب في المائدة التونسية بصفة عامة أن نضبط بدقّة أصول الأطعمة والحلويات التاريخيّة، فبعض مكوناتها من أصول قديمة والآخر حديث أو مستحدث، بحيث يستعصي التمييز بين الدخيل والأصيل بما في ذلك في الزلابية والمخارق التي وإن رجحنا أصولهما العربية الأندلسية، فإنّ هذا لا يعني أنه ليس للأمازيغ السكان الأصليين لشمال أفريقيا بصمة فيهما. تتخذ الزلابية شكلا دائريا تتخلله فتحات صغيرة يقع إعدادها من طحين الحنطة مثلها في ذلك مثل المخارق التي تختلف عنها بشكلها المستطيل أو الدائري وكلاهما يُخلط بالزيت وسائل البيض مع استئثار المخارق بالسمن دون الزلابية ويوضعان في إناء كبير ويتركان لحالهما مدة من الزمن حتى يتخمرا قبل أن يُقليا في الزيت ثم يُنقعا في العسل المصفى. وهما زلابية الأغنياء والمترفين من المحظوظين ومخارقهم قديما، أما الفقراء فليس لهم من نصيب إلّا في عسل اصطناعي يُشتق من السكّر بعد خلطه مع الماء وغليه على النار، ويكون لون الزلابية أصفر فاقعا أو برتقاليا يميل أحيانا إلى الاحمرار، أما المخارق فهي بنية اللون أو لا تكون، والألوان هنا لا تتغير في حالتي الفقر والغنى ولا يعترف بهما، أمّا في المذاق فشتّان بين العسل والسكّر.
أمّا في الأطعمة الرمضانية، فلا أكلة تتمتّع بما تتمتّع به كلّ من الزلابية والمخارق من هيمنة وشعبيّة وانتشار كـ”البريكة” أو “كعبة البريك” كما يُطلق عليها التونسيون والتي لا أكلة كذلك بإمكانها أن توحّد بينهم على مائدة الإفطار بشرائحهم المختلفة: ميسوريهم ومعوزيهم وجهاتهم وأصولهم الريفيّة أو الحضريّة كما توحد بينهم البريكة التي لا تكاد تخلو منها مائدة. والبريكة تُعدّ من غشاء رقيق يُصنع من طحين الحنطة وأشهرها بريكة البيض، حيث تُوضع بيضة كاملة بعد أن تُفقص بالطبع في عجينة مثلثة الشكل مع بصل مقطع وتونة أو لحم مفروم تضاف إليها هريسة الفلفل الحار التي اشتهر بها المطبخ التونسي دون المطابخ العربية والمغاربية (وقد يقع الاستغناء عنها) مع حبّ الكبار والبقدونس قبل أن يُلقى بها في الزيت الحامي لتُطهى في رمشة عين، فيأخذ طهوها من الوقت أقلّ ممّا يأخذه إعدادها. يُرجح أن البريكة أصلها تركي حتى وإن حاول البعض إرجاعها إلى أصول عربية بالاشتقاق من جذر “برك” ومنها البركة.
قد لا نوفي الأكلات الرمضانيّة حقّها ولكن لا بدّ من الإشارة إلى أنّ بعضها تُسمّى بأسماء النساء مثل “أمّك حوريّة” أو “صوابع فاطمة” أو “حوت في سفساري”، أو ”عين اسبانيورية” وتتمثّل في قطعة من اللحم المفروم دائرية الشكل تتوسطها بيضة مسلوقة، ولا نعرف إن كانت الإشارة إلى الأسبانية هنا لجمال عينها أم تشفيا من الأسبان الذين تحفظ لهم ذاكرة أهل تونس الحاضرة عندما احتلوها سنة 1535 صورة سيئة لتنكيلهم بأجدادهم القدامى.
لعلاقة المأكولات بالتشفي من أرباب السلطة وعقابهم قصّة طويلة في تسمياتها التونسية، وتكفي الإشارة إلى “أوذان القاضي” وهي حلويات في شكل أذن يقبل على التهامها التونسيون بكثرة في رمضان، ومع التهامها يقطعون أذني القاضي كلّ مرة رغبة منهم في ألا يستمع إلى أي شيء ممّا يمكن أن يدينهم، مثلها في ذلك مثل الأكلة المسمّاة بـ”البوليس المكتف” أي الشرطي المشدود الوثاق، وهو عبارة عن صدر دجاج يدقّ بمطرقة من خشب قبل أن يحشى بالتوابل ويشدّ بأربطة تلفّه كله، كناية عن رغبة دفينة ولاواعية في شلّ البوليس عن الحركة حتى يستطيع التونسيون فعل ما يرغبون فيه بكلّ حرية تحديا لإكراهات السلطة وانتقاما فانتازميا منها على مائدة الطعام.