شمال سوريا: حلم تركيا الذي استحال إلى كابوس
مع اقتراب قوات سوريا الديمقراطية من السيطرة على مدينة منبج السورية التي يسيطر عليها تنظيم داعش، نكون أمام فرصة جديدة لتشكل “منطقة آمنة” في شمال سوريا. ويعتبر ذلك مطلبا تركيا، بل حلما طالما راودها منذ اندلاع الثورة السورية. غير أن تحققه اليوم على يد عدوها الأبرز، حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، يجعله كابوسا مرعبا.
بعد مرور نحو تسعة أشهر على اندلاع الثورة السورية، أعلنت تركيا أنها تدرس خيار إقامة “منطقة عازلة” داخل سوريا لإيواء اللاجئين في حال واصلوا التدفق نحوها وبلـغ عـددهم مـا “بـين عشـرات الآلاف ومئات الآلاف”، كما قال حينها أحمد داود أوغلو الذي كان يحتل منصب وزير الخارجيـة. ورغم أن أعـداد اللاجئين السوريـين في تركيا اليـوم تقارب 2 مليون، لم تتمكن أنقرة من إقامة منطقتها العازلة.
لم تكن حدود تلك المنطقة واضحة مع بداية طرحها؛ إذ فيما كان الدافع العلني لإنشائها هو إيواء اللاجئين السوريين، كان الهدف الرئيسي الضغط على النظام السـوري بما يؤدي إلى دفعه إلى طاولة الحـل السيـاسي وخصـوصا أن إنشـاءها كـان يتطلب حظرا جويا، مـع مـا يتضمنـه ذلـك من تدمير للدفاعـات الجوية لنظام الأسد.
هددت تركيا في البداية بأنها سوف تقوم بإنشاء المنطقة العازلة بنفسها، لكنها، ورغم تزايد تدفـق اللاجئـين السـوريين، بدت مترددة في القيام بعمل عسكري منفرد، وراحت تطالب بقرار من مجلس الأمن الدولي. كان ذلك مطلبا يائسا ولا أمل في تحقيقه في ظـل تمتـع كـل من روسيا والصين، الداعمتين لنظام الأسد، بحق النقـض (الفيتو) في مجلس الأمن الدولي.
انتقلت تركيا بعد ذلك لمحاولة إقناع “أصدقاء الشعب السوري” وخصوصاً الولايات المتحدة بإنشاء تلك المنطقة. لكن واشنطن رفضت الأمر مراراً، ولم يكن حديثها المتكرر عن “ورقة” المنطقة العازلة المطروحة على الطاولة أكثر من وسيلة ضغط يائسة على النظام السوري لانتهاج مسار سياسي بديلاً عن العنف الدموي.
في العام 2014، برز الأكراد كقوة حاسمة ومهيمنة في شمال سوريا، ونجحوا في تأمين مناطقهم وذلك بتجنب المواجهة العسكرية من النظام السوري. في العام 2015، بدأ المقاتلون الأكراد التعاون مع الولايات المتحدة الأميركية، وهو ما تطور، مع مرور الوقت، إلى نوع من التحالف الاستراتيجي إذ تم وضع سلاح الجو التابع للولايات المتحدة الأميركية في خدمة معركتهم مع تنظيم داعش، وهو ما عزز سطوتهم في شمال البلاد.
هكذا، اكتسب المطلب التركي بإنشاء منطقة عازلة أو آمنة في شمال سوريا أهمية أكبر وذلك من أجل منع إقامة منطقة جغرافية متصلة يسيطر عليهـا أكراد سوريا، ومن أجل وقف زحفهم السريع نحو المناطق العربية التي لم يترددوا ولو للحظة واحدة في ضمها وإعـلان أنهـا باتت جزءًا من دولتهم الفيدرالية. ولذا، كثفت تركيا محادثاتها مع الجانب الأميركي في نهاية العام 2015 وسمحت للأخير باستخدام قاعدة آنجرلك الجوية التركية مقابل موافقة أميركا على إقامة المنطقة كما تحدث حينها الإعلام التركي.
لكن الموقف الأميركي بقي شديد الفتور تجاه إنشاء تلك المنطقة وهو ما دفع تركيا إلى طرح قضية المنطقة العازلة من منظور جديد يرتبط بمحاربة تنظيم داعش الذي شن هجمات صاروخية عديدة على مدينة كلس التركية. اعتبرت تركيـا أن الحل الوحيد لوقف هجمات داعش هو إقامة منطقة خالية من التنظيم المتطرف، ووصل التفاؤل التركي إلى حدود حديث الـرئيس رجب طيب أردوغان عن عملية عسكرية تركية- أميركية مشتركة لإقامة تلك المنطقة في غضون أسابيع.
لكن التدخل العسكري الروسي في سوريا وما يليه من إسقاط تركيا للطائرة الحربية الروسية وتوتر العلاقات بين الجانبين، جعل من إقامة المنطقة العازلة من قبل أنقرة أمراً مستحيلا. ومع تعزز علاقات واشنطن وروسيا من جهة، وقوات سوريا الديمقراطية من جهة أخرى، أصبح حلم المنطقة العازلة التركي أكثر استحالة.
يصر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على أن المكون الأبرز في قوات سوريا الديمقراطية التي تقاتل حالياً تنظيم الدولة الإسلامية في مـدينة منبج هـو المكون العربي. ولكن تقارير عديدة تشير إلى أن الأكراد لا يزالون يشكلون المكون الأكبر وأن مشاركة العرب قضية رمزية. ربما يعلم أردوغان تلك الحقيقة، ولكن لا مفر من تقديم التبريرات أمام الرأي العام التركي الذي شاهد طيلة السنوات الخمس الماضية خطوط أردوغان الحمراء تنتهك مرة بعد أخرى، أولا من قبل الأسد، ولاحقاً من قبل الأكراد وحليفهم الرئيسي الولايات المتحدة الأميركية.
اليوم، ومع تحقيق قوات سوريا الديمقراطية التي يهيمن عليها الأكراد سلسلة انتصارات ضد تنظيم داعش في شمال سوريا بصورة عامة وفي مدينة منبج بشكل خاص، عادت المنطقة العازلة لتصبح مشروعا قابلا للتحقق. لكن المشروع الجديد لا يشبه الآمال التركية على الإطلاق. إنه حلم تركيا وقد استحال إلى كابوس.
كاتب فلسطيني سوري