الطابعة ثلاثية الأبعاد حين يمكنك طباعة كل شيء

اسطنبول - يثير تغلغل استخدامات الطباعة ثلاثية الأبعاد في وقتنا الراهن في أغلب المجالات الصناعية والطبية والثقافية وغيرها، شهية الجميع لمقاربة هذه التقنية، ومعرفة إمكانية العمل من خلالها للحصول على حلّ للكثير من الإشكاليات الخاصة بتكلفة التصنيع التقليدي، وكذلك الدقة العالية في صناعة النماذج.
ولكن من جهة مقابلة تستحضر هذه التقنية هواجس قد تبدو سلبية من مثل ثمن هذه الطابعات، وكُلف المواد التي سيتم من خلالها تصنيع منتجاتها، وأيضاً توفر المبرمجين والمصممين والمنفذين المحترفين الذين يستطيعون العمل على تحضير عملية الطباعة. وصولاً إلى طرح مسألة حقوق الملكية مجدداً ومن زاوية خطرة هذه المرة. إذ أن توفر إمكانية الطباعة الدقيقة للسلع التي تمتاز بوجود حقوق ملكية خاصة بها، سيؤدي بشكل أو بأخر إلى انفجار في عمليات القرصنة، ما يعني أن القوانين التي تحفظ حقوق الملكية ستكون بحاجة للتعديل، كي تستطيع احتواء ما ستحدثه هذه التقنية من تغيرات على هذا الصعيد.
بين الإيجابي والسلبي، أو بين المحاسن والمساوئ، تحضرُ هذه التقنية التي توصف بأنها قاطرة الثورة التقنية في القرن الحادي والعشرين، كحالة جدل بين المرحبين بنتائجها، وبين الرافضين لاستخدامها في بعض المجالات كالفن والأثار وغيرها.
ورغم أن هذا الجدال يعيدنا دائماً إلى المربع الأول الذي يحيط بظهور أيّ اختراع جديد أو ظاهرة مثيرة، إلا أنه من الثابت أنّ ما ينفع الناس لن يتوقف عن الانتشار، حتى وإن كانت حمولته تحوي بعض السلبيات، والتي قد يكون منها المبالغة في الافتراض أن هذه التقنية ستكون هي الحل للعديد من القضايا التي لم تستطع البشرية حلها من قبل.
ترتبط فكرة هذه التقنية بجذر عملية الطباعة، التي تقوم على تكرار خلق النسخة الأصلية من النص المكتوب أو اللوحة المرسومة أو الشكل الهندسي، عدة مرات، وبما يجعله متاحاً لعدد غير محدد من المستخدمين.
وبالعودة إلى تاريخ الطباعة سنرى كيف أن هذه العملية بدأت باستخدام أدوات تقليدية كالخشب والحجارة، ولكنها وبعد اختراع ألة الطباعة على يد يوحنا غوتنبرغ في العام 1447 بدأت تخطو خطوات متسارعة نحو التعميم، وبما يخدم فكرة نقل المعرفة.
وفي نهاية القرن العشرين كانت البشرية قد انتقلت إلى عتبة لم يكن يتوقعها الطبّاعون الأوائل، ففي عصر الرقميات باتت طباعة الورق وكذلك الصور متوفرة في كل بيت تقريباً، بعد أن تمكنت التطورات التقنية من صناعة طابعات صغيرة رخيصة الثمن يمكن لأيّ فرد أن يقتنيها.
هنا من المهمّ للقارئ إدراك أن كلّ ما تقوم عملية الطباعة التقليدية باستنساخه يقوم على وجود بعدين هما الطول والعرض، بينما تقوم الآلات الصناعية باستنساخ السلع المجسمة، عبر صناعة قوالب معدنية يتم فيها صب القطع المشكلة للسلعة، ثم إعادة تركيبها في خطوط العمل ضمن المصانع.
خطر الطباعة ثلاثية الأبعاد يكمن في أن يتكرر ما فعلته مجموعة ديفينس ديستربيوتد -التي أسسها قبل عامين طالب يبلغ من العمر 25 عاما يدرس في قسم القانون في جامعة تكساس، وهذا الطالب يدعى كودي ويلسون- حين قامت بتصنيع أول مسدس يد باستخدام طابعة ثلاثية الأبعاد، وأطلقت عليه اسم (المحرر)
تحويل الأجسام إلى بيانات
على هامش هذه التفاصيل الراسخة في حياة البشر، كان هناك من يفكر بدمج العمليات كلها في مكان واحد وعبر آلة واحدة، هي الطابعة ثلاثية الأبعاد، والتي ستتولى صناعة السلع دون الحاجة لوجود قوالب الصب التقليدية. فبعد أن تمكن تشاك هال أحد مؤسسي شركة ثري دي سيستم من اختراع نظام التجسيم في عام 1986، استطاع إمانويل ساكسفي العام 1993 من وضع الأساسيات الأولى لتقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد، التي تلقفتها الشركات فبدأت في عملية تطويرها، حتى وصلت في بداية القرن الحادي والعشرين إلى عتبة الاستخدام في الصناعات الثقيلة، ولتصل في السنوات الأخيرة إلى الصناعات المتوسطة والصغيرة.
تقوم الآلية من الناحية التقنية على طباعة أجزاء المنتج أو النموذج الأوّل في شكل طبقات، فالجزء المطلوب طباعته يُرسم بمساعدة برنامج أوتوكاد، ثم يقسم التصميم إلى رسوم على شكل بيانات رقمية، يقوم جهاز الطباعة بتنفيذها مجسمة من المادة المختارة بالتفاصيل الدقيقة لكل طبقة. ويتم بناء كل طبقة بنثر أو نفث مسحوق الخامة فوق سطح طبقة أخرى من المسحوق تم إعدادها كأساس.
ويجمل التقنيون ميزات هذا النوع من الطباعة بالقول إنه “تحويل شكل مجسم إلى بيانات قابلة للتشكيل الطبقي، مع سهولة تعديل التصميم وامكانية تنفيذه حتى وإن بلغ أعلى درجات التعقيد. وكذلك التقليل من استخدام أدوات أو أجهزة كثيرة مع اختصار للوقت والتكلفة. ما يعني أن دورة الإنتاج ستكون قصيرة جداً في الوقت الذي يمكن فيه الحصول على منتج مطابق لكل المواصفات القياسية”.
|
مجالات الطباعة
يتداول المستخدمون العاديون للتقنية إمكانياتها في مجالات تعتبر بسيطة كالمجوهرات والألعاب وبعض القطع منزلية الاستخدام. بينما ترتفع تعقيدات الأمر في المجالات غير البسيطة، ففي عالم الطب بدأ استخدامها لإنتاج المفاصل والأطراف الصناعية وأطقم الأسنان، وكذلك في طباعة نماذج تحاكي بعض أعضاء الجسم التي تعاني من أمراض معينة، إذ تسمح هذه العملية للأطباء بمعاينة واقع حال المريض وبما يوفّر الوقت والدقة في العلاج.
وفي مجالات الصناعات الدقيقة ظهر أن لتقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد مجالات أوسع كثيراً مما هو متوقع، فمن عالم الساعات إلى عالم الهواتف النقالة وإلى غيرها تقوم هذه الطابعات بصناعة القطع صغيرة الحجم.
وبالانتقال إلى عالم العمارة والبناء، فلا شيء يصعب على التقنية طالما أن المصممين يقومون بتجهيز المخططات والتصاميم.
وفي صناعات الفضاء أنتجت شركة جنرال إلكتريك، أجزاء محرك نفاث، مثل منافث الوقود وأنظمة التوربينات، من مكونات مطبوعة عن طريق الطابعات ثلاثية الأبعاد، كما تم استخدام طابعة من هذا النوع أرسلت من قبل وكالة الفضاء الأميركية ناسا إلى محطة الفضاء الدولية، لتقوم هناك بخلق قطع بديلة للأجهزة المستخدمة في المركبات الفضائية.
مخاوف أمنية
تتخوف المؤسسات الأمنية من انتشار طباعة الأسلحة عبر هذه التقنيات بعد قيام مجموعة ديفينس ديستربيوتد -التي أسسها قبل عامين طالب يبلغ من العمر 25 عاما يدرس في قسم القانون في جامعة تكساس، وهذا الطالب يدعى كودي ويلسون- بتصنيع أول مسدس يد باستخدام طابعة ثلاثية الأبعاد، وأطلقت عليه اسم “المحرر”. لا سيما وأن هذا السلاح وغيره لم يحمل أيّ رقم تسلسلي يثبت معلوماته في السجلات الأمنية كما هو حال الأسلحة المصنعة بالطرق التقليدية.
تشاك هال أحد مؤسسي شركة ثري دي سيستم يتمكن من اختراع نظام التجسيم، ممهدا لإمانويل ساكسفي لاحقا لوضع الأساسيات الأولى لتقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد، حتى تصل في بداية القرن الحادي والعشرين إلى عتبة الاستخدام في الصناعات الثقيلة
وقد برزت قضية استخدامات هذه التقنية في عالم الآثار هذه السنة مع قيام معهد الآثار الرقمية البريطاني، وهو منظمة غير ربحية تتعاون فيه جامعتا أوكسفورد وهارفارد والحكومة الإماراتية، بطباعة قوس مماثل لقوس النصر التاريخي في مدينة تدمر السورية الذي قامت داعش بتدميره أثناء احتلالها للمكان، تم عرضه لعدة أيام في ساحة “الطرف الأغر” في العاصمة البريطانية لندن، مستخدماً في صناعته رخاماً إيطالياً كمادة خام، بتكلفة ذكرت بعض المصادر أنها قاربت حوالي ثلاثة ملايين ونصف المليون دولار.
حينها رحب العديد من الآثاريين والمثقفين بالأمر من جهة أن توفّر هذه الإمكانيات سيمكن الإنسانية من استعادة بعض الأثار التي تم تدميرها، كبعض أثار تدمر، وبعض أثار أفغانستان التي قامت حركة طالبان بتدميرها كتماثيل باميان الشهيرة.
بينما أثيرت بعض الاعتراضات من قبل آثاريين قالوا بأن هذه العملية لن تعوض عن القطع الأثرية الأصلية التي تم تدميرها، فاتحين المجال على مصراعيه للسؤال عما يمكن القبول به وما يمكن رفضه من منجزات هذه التقنية.
وعلى منوال هذه الاعتراضات يتساءل الفنانون التشكيليون وكذلك النحّاتون عمّا يمكن أن يحدث مستقبلاً بتأثير هذه التقنية، ففي الماضي تدافعت الأسواق إلى اقتناء النسخ المقلدة من الأعمال الفنية والتي كان يتبارى فيها المقلدون بقدرتهم على اللحاق بالنسخة الأصلية، وفي الحاضر وفي المستقبل لن يهتم أحد في السوق الفنية الاستهلاكية بالسؤال عن اللمسة البشرية في نحت الأعمال الفنية، بل سيركزون على أبرع الطابعات وأفضل الخامات، ما يعني الإهمال الصريح والواضح لقدرات الفنانين التي كانت تمنح الأعمال الفنية بعضاً من رؤاها وخيالها.
|
على الضفة الأخرى من هواجس الفنانين والمبدعين حيال منتجات هذه التقنية في عالم الفن والثقافة، يبدو أن “مصائب قوم عند قوم فوائد”، إذ أن حمولة انتشار التقنية في السوق تعني بشكل أو بآخر انتشاراً أو توسعاً لخارطة كبيرة من الوظائف المرتبطة بها.
كتب الصحافي برايان بورزيكوفسكي في موقع “بي بي سي كابيتال” في بداية هذا العام عن الفضاء الجديد الذي انتفخ مع تقدم حاجيات سوق الطباعة ثلاثية الأبعاد. فبحسب تقرير لمؤسسة “وانتد أناليتكس”، وهي مؤسسة تعمل في مجال برامج الكمبيوتر وتجميع بيانات عن اتجاهات التوظيف، فإن عدد إعلانات الوظائف التي يُشترط فيها الإلمام بمهارات الصناعة التجميعية زاد بمعدل 1.834 بالمئة، في الفترة ما بين 2010 و2014. كما ذكرت المؤسسة أن الموظفين ذوي الخبرة في الطباعة ثلاثية الأبعاد الذين يشتد الطلب عليهم هم المهندسون في مجالي الصناعة والميكانيكا، ومطوّرو البرامج، والمصممون التجاريون والصناعيون، ومديرو التسويق. ويرجع السبب الرئيسي في تزايد الطلب الوظيفي إلى أن الاهتمام بالطباعة ثلاثية الأبعاد يتصاعد بمعدل غير مسبوق.
بحسب تقديرات شركة “ستاتيستا”، وهي شركة تُعنى بجمع التقارير البحثية، سيحقق سوق الطباعة ثلاثية الأبعاد، بما فيه مواد الطباعة والخدمات ذات الصلة، مبيعات تصل إلى 16.2 مليار دولار سنة 2019، بعدما حقق 3.8 مليار دولار سنة 2014. في حين قدرت مؤسسة “غارتنر ريسيرش”، وهي مؤسسة بحثية عالمية في مجال تقنية المعلومات، أن مبيعات الطابعات التي يقل سعرها عن 1000 دولار أميركي، وهي محرك مهم للسوق، ستمثل 28.1 في المئة من المبيعات بحلول عام 2018، بعد أن كانت تمثل 11.6 في المئة، من المبيعات سنة 2014.
كسر الاحتكارات
تقدم الطابعات ثلاثية الأبعاد آفاقا مذهلة لإمكانية أن تقوم هذه الآلات بصيانه نفسها بنفسها وهذا ما ينحو له مشروع “رِب راب” وهو عبارة عن “مبادرة لتطوير آلة للطباعة ثلاثية الأبعاد بحيث يمكنها طباعة معظم أجزائها المكوّنة لها لتصنيع آلة جديدة أو لاستبدال جزء ما بها، وبذلك تكون آلة قادرة على تصنيع نفسها بنفسها، ويمكن تصنيفها ضمن الروبوتات مفتوحة المصدر.
وتعتمد فكرة عمل الآلة على صهر خيوط بلاستيكية رفيعة فوق بعضها البعض على شكل طبقات متساوية السُمك لتكوين المُجسّم المطلوب. وبما أنها مفتوحة التصميم، بمعنى أنّ تصميماتها متاحة بالكامل دون قيود أو احتكار للجميع دون أيّ مقابل، فإن جميع التصميمات التي أنتجها المشروع صدرت تحت رخصة البرمجيات الحرة الشهيرة.