حروب العرب.. وزمانهم

الأربعاء 2016/06/15

لا يمثل العرب اليوم كتلة واحدة، إذا استثنينا من ذلك الجانب الشكلي شبه المؤسسي المتمثّل في جامعة الدول العربية، وتتسع الهوة بينهم حين يتعلق الأمر بالمصالح القطريّة، ورغم الاختلاف البيّن في طرح القضايا والخلاف حول المشترك بينهم، والصراع حول تقديم التنازلات وإظهار الولاءات للقوى الخارجية، فإنهم على مستوى الفعل يصنفون ضمن منطقة الحرب، فهناك دول عربية تعيش حالة حرب على المستوى الداخلي، وأخرى تشارك في الحرب حماية، كما تٌظْهِر، لجبهتها الداخلية، وثالثة تحاول أن تخرج من مأزق التغيير عبر ممارسة العنف، ورابعة تٌقايض الأمن والاستقرار بالإرهاب، وخامسة تحولت الحرب فيها إلى واقع وعمّرت في بعضها لمدة تجاوزت العقدين.

الحرب على مستوى الجبهة الداخلية هي الثابت الوحيد في الدول العربية، إلى أن تضع أوزارها، ولا يلوح في الأفق ما يؤكد حدوث ذلك في المستقبل المنظور على الأقل، وهي عمليّا، حيث الحديث والسعي من أجل الانتصار على عدو داخلي، تٌمثّل الزمن بأبعاده الثلاثة، على ما فيها من تناقض وتضاد ليس فقط لأنها تجمع أفعال أمم خلت أو أخرى حلًّت، ولكنها تحاول، على نطاق واسع، تطويعه لصالح أزمنة أخرى، وتلك الأبعاد الثلاثة، هي:

الماضي، لجهة استرجاع تاريخ طويل من الفتن بما في ذلك الصراع المذهبي والطائفي، فيه، ومن خلاله، وبالتعويل عليه، يتم إجراء مقارنات مُسيّسة ومُؤدلجة، والتأسيس عليها لتبرير الإرهاب الداخلي، بل وصناعته كما نرى في العراق اليوم على سبيل المثال، وفي هذا الماضي الحاضر، نُشدُّ بحبال قوية إلى أزمنة بعيدة، يصنف كل فريق نفسه فيها من منطلق الميراث المذهبي أو الطائفي، المنتمون لهذا الزمن، وكلنا كذلك بنسب مختلفة، دخلاء عن الحاضر، ومع ذلك فهم مؤثرون فيه.

الحاضر، انطلاقا من مواجهة مشتركة مع العالم لمحاربة الإرهاب والتطرف، وفي هذه البعد نبدو معاصرين وعالميين وأبناء عصرنا، أو هكذا يخيل لنا. مشكلتنا هنا أعمق، لأنّ الآخر يفرض علينا طوعا أو كرها محاربة الإرهاب، بل وتحمل مسؤوليته حتى حين يقع خارج ديارنا، ليس فقط لأن بعض الأنظمة العربية أنشأت جماعات إرهابية أو تحالفت معهـا من أجل استمراريتها أو دعمّها لتخويف المعارضة والخصوم، أو لأنها ولدت من فشل تلك الأنظمة وعدم قدرتهـا على تحقيـق المشاريع والأهداف، ولكن لأن الآخرين يرون فينا، بشرا وتصورات وقناعات، وتاريخا خطرا على العالم، وأننا دائما متهمون حتى لو ثبتت براءتنا.

المستقبل، تعلقاُ بتغير منتظر، مهما كانت التكلفة، يُبْقي الأنظمة الراهنة، حتى لم تعد هناك دول تحكمها بالمعنى المعاصر المتعارف عليه دوليا، ويتم هذا ضمن قناعات ورؤى هي أقرب إلى رد الفعـل منها إلى الفعـل، وإلى التكتيك منها إلى الإستراتيجية، دون الأخذ في الاعتبار أسباب الحروب الداخلية، ولا خلفيَّاتها ولا مآلاتها، وهي محاولة أقرب إلى الموت البطيء منها إلى العودة التدريجية إلى الحياة، الشاهد هنا هو اتساع مساحة الإرهاب وتطور وسائله، وتنوعه، وزيادة القائمين به، والمتضررين منه، وكل الدلائل والدراسات تفيد بأن الإرهاب يتّخذ أشكالا مختلفة بما فيها إرهاب الأنظمة، من ذلك سوء استغلالها لحق ممارسة العنف المنظم.

على النحو السابق يُرى الزمن العربي، وهو زمن حرب، كما ذكرنا آنفا، اختلطت فيه الأبعاد وتزاحمت لتكوّن صيغة واحدة، مُحصِّلتها رفض التعايش المجتمعي على أساس قبول الاختلاف النسبي ضمن الرؤية الشمولية داخل المجتمعات العربية، صحيح أن هذا الاختلاط أو الحضور الزمني غير واضح المعالم لغير ذوي الاختصاص، لكن هذا لا يعدُّ مبررا مقبولا من الجميع، وبوجه خاص من صُنّاع القرار.

والواقع أن رفض التعايش والحوار إلى درجة الإقصاء على المستويين الفكري والسيـاسي، والإبادة على المستوى العسكري، هو فعل إجرامي من كل الأطراف المختلفة والمتقاتلة في كل الساحات العربية، وهو أيضا نتاج إصرار على التدمير من الجماعات الدينية في رفضها للمجتمع أو محاولتها غير الواعية لإدخاله في الدين وإخراجه من الإيمان المزيف أو غير الواعي، وبمعنى أدق إخراجه من الكفر، وهو فعل أقليات عرقية ترى أن الأوضاع مناسبة لاستعادة حق ضائع طالبت به، أو خافت من المطالبة به منذ زمن طويل، والأكثر من هذا هو أنه فعل أكثرية مذهبية في بعض الدول العربية ترى في وصولها إلى الحكم، مُبرّرا للانتقام من تراكم الظلم لقرون خلت، إضافة إلى هذا كله فإن ثقافة الحرب بما تحمله من مواجهة وخوف من الهزيمة ومن سعي للانتصار، ساعدت على اشعال الفتن.

ولأن الجبهات الداخلية في معظم الدول العربية مشتعلة، فإن ذلك ألهانا على العدو الخارجي، وخاصة إسرائيل، والحديث اليوم عن تفعيل مبادرة السلام العربية يشي بانشغال عن الجبهة الداخلية، وكذلك محاولة إصلاح العلاقة مع تركيا، أو وقوف بعض الدول العربية إلى جانب إيران، وإذا كنا لا ننكر نسبة المخاطر التي تأتينا من الجيران السابقي الذكر، فإنها قائمة وموجودة، إلا أنها لم تعد أولوية نتيجة للحروب الأهلية الداخلية.

الحروب الأهلية العربية الراهنة مخيفة، وتلك طبيعة كل الحروب حين تكون مع عدو خارجي حتى لو كان محتلا، لكنها تصبح أكثر خطورة حين تتعلق بصراع داخلي، وقد رأينا كيف كانت نتيجة الحروب الأهلية في الدول الأفريقية، وكيف أثرت حربان عالميتان على ألمانيا، فلو قارنا بين الاثنين سترجح الكفة لصالح ألمانيا. قد ترفض هذه المقارنة لأنها غير عادلة، ويرى البعض أن أوروبا والولايات المتحدة عاشتا حروبا أهلية ثم انتهتا إلى القوة التي نراهما عليها اليوم، وهذا صحيح مع مرور زمن طويل، ونحن عانينا من حروب طويلة على مدى قرون، لذلك، وتماشيا مع تجارب الآخرين، علينا أن نهجرها في أسرع وقت إلى الأبد.

كاتب وصحفي جزائري

9