ما الشيء الذي يستحق أن نموت من أجله

الاثنين 2016/06/13

لا بأس أن نعيد طرح السؤال الوارد في العنوان أعلاه: ما الشيء الذي يستحق أن نموت من أجله؟ لو طرحنا هذا السؤال على شخص ينتمي إلى زمن القبائل البدائية أو العشائر التقليدية لأجاب بلا تردد: العشيرة؛ لأنها تمنحه الهوية (النسب، الانتماء، الاسم، الأصل، إلخ)، تمنحه الحماية (التكافل، النصرة، الحمية العصبية، إلخ)، وتمنحه الوجود الاجتماعي (فالإنسان كائن اجتماعي بطبعه).

لكن، لو طرحنا السؤال نفسه على شخص ينتمي إلى حقبة التاريخ القديم لكانت الإجابة على الأرجح: الملك/ الإمبراطور؛ لأنه يضمن وحدة العشائر، وحدة العساكر، ومن ثمة هوية أكبر وحماية في إطار جغرافي أكبر، وفوق كل ذلك فإنه مفوّض من طرف السماء تفويضا كاملا.

بعد هذا لو طرحنا نفس السؤال على شخص ينتمي إلى حقبة العصر الوسيط فأغلب الظن أن يقول: الله؛ لأنه يمنح للهوية وللحماية أبعادا روحية وغيبية وأنطولوجية تشمل الدنيا والآخرة معا، الوجود العرضي والحياة الأبدية أيضا.

ولو طرحنا السؤال على شخص ينتمي إلى العصر الحديث لكانت الإجابة: الوطن؛ على الأرجح، هنا بدأت سيرورة علمنة مفهوم التضحية. ثم إننا لو طرحنا نفس السؤال على شخص يساري في منتصف القرن العشرين لجاءت الإجابة على النحو التالي: الشيوعية؛ لأنها تجسد الغايات الكبرى للتاريخ الإنساني، وهي ثلاث: أوّلا، زوال صراع الإنسان ضدّ أخيه الإنسان، ثانيا، تحقق مبدأ “اعتراف الجميع بالجميع”؛ ثالثا، تحقق مبدأ “من كل حسب إمكانياته ولكل حسب حاجياته”. لكن جميع هذه الإجابات أنتجت العنف والحروب والاقتتال. وهو ما يجعل من تقويضها واجبا أخلاقيا لغاية تحقيق الأمن والسلام:

الإجابة الأولى أغرقت العالم الأقدم في التطاحنات القبلية والعشائرية والطائفية (حرب داحس والغبراء مثلا)؛ الإجابة الثانية أغرقت العالم القديم في التطاحنات التي طبعت العـلاقات بين المـدن والدول في التاريخ القديم (حرب طروادة مثلا)؛ الإجابة الثالثة أغرقت العالم الوسيط في الحروب الدينية (الفتوحات الإسلامية، الحملات الصليبية، الفتن في الشرق، والحروب الدينية في الغرب)؛ الإجابة الرابعة أغرقت العالم الحديث في الحروب الوطنية الأكثر شراسة (الحربان العالميتان الأولى والثانية، وحروب حركات التحرر الوطني)؛ الإجابة الخامسة أشعلت في القرن العشرين أكبر الثورات في التاريخ (ثورة أكتوبر في روسيا، المسيرة الحمراء في الصين، الثورة الفيتنامية، إلخ)، وذلك أملا في بناء ما اعتبره الكثيرون النظام الأكثر عدالة في التاريخ. ولا بأس بالتذكير بأن بعض التضحيات كانت مزيجا من إجابتين أو أكثر: مثلا، كانت الثورة الفيتنامية مزيجا من الإجابتين الرّابعة والخامسة؛ وكانت الثورة الجزائرية مزيجا من الإجابتين الثالثة والرّابعة، إلخ.

الآن، ماذا لو طرحنا ذلك السؤال نفسه اليوم على المجتمعات الغربية أوّلا: ما هو الشّيء الذي يستحق أن يموت الإنسان من أجله؟ على الأرجح ستأتي الإجابة على منوال عبارة شهيرة لألبير كامي حين قال: لا شيء يستحقّ أن أموت من أجله.

هل هي نتيجة سلبية أم إيجابية؟ هل هو نبأ سيء أم جيّد؟ هل هو خبر محزن أم مفرح؟ نعم، يتعلق الأمر بخبر محزن بالنسبة لبعض الفلاسفة (ميشال أونفراي مثلا)، لكنه خبر مفرح بالنسبة لفلاسفة آخرين (لوك فيري مثلا).

إذا قصدنا أن نفهم وجهة نظر المتشائمين، أو على الأقل أولئك الذين لا يعتبرون الأمر خبرا مفرحا، بوسعنا التذكير بوجود نزعة هيجلية، بتأويل من ألكسندر كوجيف، تسري في روح الحضارة المعاصرة وتقوم على الفكرة التالية: هناك دائما أشياء يجب على الشعب أن يكون مستعدا للموت من أجلها، إن لم تتعلق بالدين فيجدر أن تتعلق بالوطن، وإن لم تتعلق بالوطن فيمكن أن تتعلق بحلم مستقبلي يمثل نوعا من الخلاص الأرضي. نهاية الاستعداد للتضحية تعني نهاية التاريخ. تلك هي الإشارة التي التقطها فرانسيس فوكوياما ليؤكد بأن المعارك الكبرى قد انتهت بانتصار الليبرالية، وكل ما بقي أمامنا مجرّد معارك صغرى في التفاصيل بحيث لا تستدعي بالضرورة حجما كبيرا من التضحيات.

غير أن المسألة المطروحة تبقى على النحو التالي: كيف يمكننا أن نضمن بأن نهاية التاريخ (أي نهاية المعارك الكبرى) لا تعني نهاية التطوّر الإنساني، ومن ثمة بداية التدهور والانهيار؟ الواقع أن هناك شعورا هيجليا شائعا بأن الحضارة كيفما كان نوعها تدخل إلى مرحلة التدهور حالما لا تستطيع أن تقنع الناس بأن هناك ما يجب التضحية من أجله. هنا بالذات يكمن أحد مظاهر الأزمة التي جابهها معظم الفلاسفة المعاصرين، الأزمة التي يصطلح عليها الكثيرون باسم العدمية: لقد حاول ليو شتراوس العثور على العلاج ضمن ما يسميه بالفلسفة الكلاسيكية (أفلاطون، الفارابي، ابن ميمون) لغاية استرجاع فكرة المُثل العليا، وكان ألكسندر كوجيف متشائما بعض الشيء، ويبدو ميشال أونفراي اليوم أكثر تشاؤما لدرجة أنه يردد مرارا بأن السفينة غارقة لا محالة، وما علينا إلا أن نستمتع ببعض الوقت الباقي قبل الانهيار، ربما على منوال أوركسترا سفينة التيتانيك التي استمرت في العزف دون توقف بينما كانت السفينة تهوي إلى أعماق البحر. لكن، هناك فلاسفة كثيرون أكثر وفاء لتقاليد الحكمة والتنوير بالمعنى الأصيل، استطاعوا السيطرة على تلك الروح المأساوية التي تطبع في الغالب كبار المبدعين من الفلاسفة والشعراء والفنانين، الذين يحاولون تقويض العدمية بجهد عقلاني خلاصي أكثر معقولية وواقعية: مثلا، بدل إلغاء فكرة الثورة بالكامل يقترح جيل دولوز فكرة الميكروثورات، وبدل إلغاء فكرة الخلاص بالكامل يقترح لوك فيري ما يسميه بالخلاص العلماني، ويقترح أندريه كومت سبونفيل ما يسميه بالروحانية العلمانية، وكما كان يقول ميشال فوكو، ليس بوسعنا أن نفعل الكثير لكن بوسعنا أن نفعل شيئا ما. ما يعني انحدار سقف التضحيات، لكن لأجل عدم تبديدها في الأخير.

لربما لهذا السبب قال هيدجر في أحد حواراته (والذي نشر بعد موته) إننا لن ينقذنا سوى إله جديد. لعله يقصد بأن الحضارة المعاصرة تحتاج إلى استرجاع شيء من مبدأ التعالي، يعيد لمفهوم التضحية دوره ووظيفته ومعناه. لكن، لأجل توضيح الأمور، لا ننس بأن تلك الأزمة “الروحية” قد صادفت مسألتين بالغتي الأهمية: توازن الرعب النووي بين المعسكرين الشرقي والغربي، والذي بلغ ذروته في سنوات السبعين من القرن العشرين، وقرب نهاية الألفية الثانية. وهنا يؤكد كارل يونغ بأن نهاية الألفيات تمثل فرصة لعودة كل المخاوف اللاعقلانية والكوابيس القيامية في اللاوعي المسيحي. لذلك، طبيعي أن تشهد سنوات التسعين من القرن العشرين موجة من الانتحارات الجماعية التي نفذتها العديد من الطوائف المسيحية في الغرب، تلك العمليات التي بلغت ذروتها في العقد الأخير من القرن العشرين، وتحديدا في الفترة بين 1992 و1996 (الطائفة الداوودية، محفل المعبد الذهبي، ميليشيا مشيغان، إلخ).

المقدّس هو الشيء الذي بوسع الإنسان أن يضحي من أجله. هكذا يشرح الفيلسوف الفرنسي لوك فيري مفهوم المقدس بالدلالة الاصطلاحية الفرنسية. ثم يشرح انطلاقا من رؤيته التفاؤلية المعهودة كيف أن الغرب لا يعيش أفولا في مفهوم التضحية، لكنه يعيش أزمة انتقال نحو مفهوم جديد للتضحية. فلقد كان الإنسان الغربي يضحي قديما من أجل الدين، وهي المرحلة التي أنتجت الحروب الصليبية والحروب الدينية، ثم انتقل إلى مرحلة التضحية من أجل الوطن، وهي المرحلة التي أنتجت الحربين العالميتين والاستعمار وحروب الاستقلال، إلخ. ثم بدأ ينتقل أخيرا ومؤخرا نحو مرحلة التضحية من أجل حقوق الأجيال القادمة. وهذا المآل جيّد وواقعي طالما أن أساس مبدأ التقدم في التاريخ ينبع من شعور طبيعي في الإنسان: كل واحد منا يريد أن يعيش أبناؤه حياة أفضل من حياته. غير أن العائق هنا، ولعلها مفارقة مستعصية، يكمن في غريزة الأبوة بالذات والتي تقيّد طموح الأبناء وتشل روح الاندفاع لديهم وتحيطهم بسياج من المخاوف والتحذيرات.

لكن، إذا أردنا أن نمنح لفكرة لوك فيري بعدا خلاصيا أشدّ عمقا في الوجدان الإنساني، فقد لا نجد عبارة أدق وأعمق من هذه العبارة: خلود النوع البشري. لم لا؟ لعل العبارة تبدو صادمة للعقل الديني، غير أنها صادمة للعقل الديني السطحي على وجه التحديد. وليست السطحية هي ما نحتاجه اليوم.

الآن، ماذا لو طرحنا السؤال على مجتمعاتنا المسلمة؟ ما هو الشيء الذي يستحقّ أن نموت من أجله؟ ما هي الإجابة التي نتوقعها؟ دون شك، نعيش بوادر انتكاسة كبرى إلى العصر الوسيط: الموت في سبيل الله. بل، لعلها انتكاسة إلى العصور الأكثر قدما: الموت في سبيل الطائفة.

كاتب مغربي

9