حركات الإسلام السياسي والانحناء للعاصفة

السبت 2016/06/11

مع انتهاء ثورات الربيع العربي والاتجاه نحو كتابة الدستور، وتنظيم الانتخابات العامة، بدا أننا أمام ربيع جديد، هو ربيع حركات الإسلام السياسي التي حصدت أصوات الناخبين حيث أمكن عقد الانتخابات.

ادعت تلك الحركات أنها قد قبلت، بصورة تامة، بالعملية الديمقراطية التي تقوم أساسا على الإقرار بحقيقة التعددية السياسية والخضوع لها وحمايتها بما يمنع تجدد الطغيان. ولكن التجارب أثبتت أنها لا تزال غير مهيأة لاعتناق هذا المنطق السياسي الحديث.

في تونس، لدينا حركة إسلامية سياسية، هي حركة النهضة، تدعي أنها تقود عملية التحديث السياسي والديني، وأنها بصدد إحداث تغييرات عميقة وطويلة الأمد في رؤيتها للعملية السياسية، سواء كان ذلك كنوع من الإصلاح الديني، كما تدعي، أو كنوع من الخضوع للحالة السياسية التونسية التي تحمي التنوع السياسي الموجود وتقوم بتكريسه.

في المؤتمر العام لحركة النهضة، جرى الإعلان عن فصل العمل الدعوي عن العمل السياسي في حدث بارز على صعيد حركات الإسلام السياسي. أكد راشد الغنوشي، رئيس الحركة، أن الأخيرة قد تطورت إلى “حزب ديمقراطي وطني مسلم متفرغ للعمل السياسي بمرجعية وطنية”، كما أعلن “النأي بالدين عن المعارك السياسية، والتحييد الكامل للمساجد عن خصومات السياسة والتوظيف الحزبي”.

على الصعيد النظري، تبدو خطوة النهضة هامة لجهة تطوير رؤية الأحزاب الإسلامية للعمل السياسي. غير أنه لا يمكن تكريس تلك الأهمية دون الانتقال إلى الشق العملي الذي تحيط به شكوك كثيرة.

تدعي حركة النهضة أنها تقود عملية التحديث السياسي ضمن التيار السياسي الإسلامي. لكن المخاوف تبقى قائمة، ذلك أن جميع محاولات أحزاب الإسلام السياسي في المنطقة انطلقت من براغماتية الظرف الراهن، أو من ضرورة الانحناء في وقت العاصفة، فحاولت التوفيق المتعجّل بين كونها أحزابا إسلامية من جهة، وبين أهمية التحديث السياسي من جهة أخرى. ولذلك كانت منتجاتها فقيرة وهشة ومزيفة إلى حد بعيد، هذا إن ظهر لها نتاج.

يبدو أن محاولات حركة النهضة في سياق متكامل من التحديث السياسي قد بدأت عندما وافقت الحركة على التغاضي عن أن تكون الشريعة الإسلامية مرجعية الدستور التونسي. فضلا عن الموافقة على نص يدعم حرية المعتقد في الدستور. وهذا تطور هام في تجارب الإسلام السياسي، ولكن من المستبعد جدا أن ينعكس على بقية الأحزاب الإسلامية في منطقتنا. ولكي نتفاءل بحدوث ذلك، يجب أن ينعكس أولا في السلوك بعيد الأمد لحركة النهضة، وهو ما سيظهر مع مرور الوقت.

ما يبرر الشكوك هو إصرار الحركة على العمل الدعوي إلى جانب العمل السياسي وإن كانا منفصلين كما تقول. ذلك أن تواجد العنصرين معا له سياق محدد لا يخدم العملية الديمقراطية ولا الإصلاح الديني ولا التحديث السياسي. ترفض حركات الإسلام السياسي، ومثالها الأبرز الإخوان المسلمين، اعتبار الإسلام دينا يحدد العلاقة بين الفرد والله. بل تريده محددا للعلاقة بين المجتمع والله، وعليه فيجب تحويل المجتمع، مهما احتوى على تنوع واختلاف، لكي ينسجم مع العلاقة المحددة مسبقا في ذهن تلك الحركات. وانطلاقا من ذلك فلا مناص من اعتبار الإسلام دينا ودنيا وسياسة ومجتمعا.

إن “أسلمة المجتمع” ونشر ما يسمّونها بـ“القيم الإسلامية” هما من الأهداف التي لا يمكن التفريط فيها وتقع في صلب اهتمام هذه الحركات. وقد اتضح لهم، مبكرا، أن اقتصار نشاطهم على العمل الدعوي من المساجد لن يحقق تلك المهمّة “السامية”. ومن هنا كان العمل السياسي ضروريا، ليجري الدمج بين كل شيء: السياسي والاجتماعي والاقتصادي والديني والدعوي. والحال أن الفصل بين تلك الأعمال، كما تدعي النهضة، لا يغير كثيرا من حقيقة أن تلك الأحزاب لا تزال تتبنى هدف “أسلمة المجتمع”، وذلك عبر السيطرة على السلطة. وبمجرد السيطرة على السلطة، يصبح الهدف هو تأبيد الحكم، وأداة ذلك هي المزيد من “الأسلمة”. إنها حلقة مفرغة تمنع التحديث السياسي، وتبقي تلك الأحزاب في دائرة مغلقة من العمل السياسي ما قبل الحديث، وحتى لو كان منفصلا عن الدعوي.

تخضع حركة النهضة لضغوط شرائح واسعة من المجتمع التونسي، وكذلك لضغوط النظام السياسي الذي أثبت مرونة وحيوية وصلابة في نفس الوقت. تضاف إلى ذلك الضغوط الخارجية، إذ أصبحت العلاقة الودية والمستدامة مع الخارج، الإقليمي والدولي، أحد عوامل نجاح حركات الإسلام السياسي في الحكم. كل ذلك يزيد الشكوك ويشد أنظارنا نحو المستقبل لنتبين مدى عمق التغيرات التي تدعيها النهضة.

ويضاف إلى الضغوط المذكورة أعلاه بروز التيار السلفي المتطرف كمنافس قوي لحركات الإسلام السياسي، فضلا عن تنامي نفوذ تنظيمي القاعدة وداعش. وقد استدعى ذلك تكثيف الهجوم من قبل حركات الإسلام السياسي وذلك عبر المزيد من “الاعتدال”. الاعتدال اليوم، أما في الغد، فقد يكون الهجوم عبر المزيد من التزمّت والتطرف، من يعرف؟

كاتب فلسطيني سوري

9