الغربال حفظته المرأة في الذاكرة وغيبه نمط المعيشة الحديث

كان للغربال دور مهمّ في الحياة الاجتماعية والاقتصادية، فهو جزء من نشاط العائلة ومناسبة لاجتماعها، ومثل للعديد من الحرفيين مهنة لها أصولها وفنونها، فتمرّ صناعة الغربال بعدّة مراحل حسب ما تتطلبه من مواد من الجلد أو الخشب. ويصنع الغربال من الجلد الطبيعيّ وأجوده يكون من جلد الجمال. فيقوم الغرابلي أو صانع الغربال بالحصول على جلود الحيوانات ودباغتها ثمّ تحويلها إلى خطوط رقيقة ومتماسكة تشدّ إلى إطار الغربال السميك من الخشب الرفيع، ويتشكل الغربال من مواد أساسية قوية تقاوم الزمن وتثبت مهارة الأيدي في صناعته.
وأثبت الغربال صموده واستمراره في تناقله بين أيادي الجدات والأمهات، متعدّد الأسماء والألوان والأحجام في شكل دائريّ واحد، فيسمّى كربالا أو كربالة ومسردا ومنخلا في فلسطين والشام، والكربالة غربال خشن يحتوي على فتحات أكثر اتساعا من فتحات الغربال.
وتسمح الكربالة من خلال فتحاتها بنفاذ الحبوب والأتربة والحصى الصغيرة، بينما تحتفظ بالشوائب الأكبر كالحصى والقصل، وكل من الكربالة والمسرد والغربال يتكون من إطار خشبي ملتف بشكل دائري ليشكل إطاراً دائريا مزوداً من الأسفل بثقوب. ويختلف المنخل عن الغربال فيستعمل لنخل الطحين قبل عجنه لفصل النخالة والشوائب عنه. وهو عبارة عن إطار خشبي مستدير تثبت في أسفله شبكة من السلك المعدني الرفيع منسوج بدقة، يستخدم لتخليص الطحين وتنقيته من الشوائب، وتكون ثقوبه وفتحاته متقاربة كثيرا، بحيث لا ينفذ منها إلا الدقيق الناعم فقط، أما ما خشن من الدقيق والقشور، وهو النخالة فيبقى فيه.
ويرتبط الغربال بتقاليد احتفالية في العديد من المناطق العربية عند الولادة وتحديدا في اليوم السابع، فيوضع الطفل المولود داخل غربال قد وقع تزيينه مسبقا لهذا الغرض وتقع غربلته عن طريق إحدى السيدات المتخصصات في ذلك، وتقوم أم الطفل بالمرور على طفلها من خلال هذا الغربال، وسط أجواء احتفالية تعمّها الزغاريد والأناشيد. أن يغربل المولود في غربال هو حرص من الأمّ والأسرة على أن يصير في المستقبل صالحا ونقيا وصافيا لا تشوبه شائبة وهو ما تفعله المرأة للحصول على دقيق قمح أو شعير صاف ونقيّ ويكون صالحا للاستعمال، وهو ما يحافظ عليه الغربال أما ما سقط منه فهو حصى وشوائب يرمى بها في القمامة.
وفي وضع المولود في الغربال تيمّن بصلاحه ونقاء جوهره فهو لا يسقط من الغربال، بل يثبت فيه ثبات الاعتقاد السائد بأنّ الغربال يحميه ويطمئن الأم على صغيرها الذي تأمل أن يكون سليما سلامة الحبوب المنقّاة التي حفظها الغربال.
الغربال يحضر في المتخيّل الرمزي أكثر من حضوره كأداة مادية في حياتنا اليومية لحاجتنا إليه في غربلة الواقع والحياة
ويتوافق هذا التأويل مع رمزية الغربال في الرؤيا فكثيرا ما يرتبط تفسير الأحلام بالمخيال الشعبي، فيدلّ الغربال في المنام حسب ما ينسب إلى ابن سيرين من تأويل، على العلم والتميز والعز والمنصب، والفرق بين الحق والباطل، ويؤوّل بإنسان ذي بصيرة، وقيل الغربال يؤول بناقد الدراهم والدنانير، ومن رأى أنه يغربل شيئاً للناس من الحبوب فإنه يدل على أنه يفعل شيئاً يكون منفعة للناس ومضرة له، ومن رأى أنه يغربل لنفسه لا لغيره فإنه يدل على حصول منفعة له.
فالغربال أداة مادية تحوّلت إلى رمز لغربلة الأفعال والأقوال لدوره المزدوج فهو من ناحية يُمسك ويُسقط، يحفظ ويُهمل ليميّز بين الصافي النقيّ والشوائب، بين الصالح والطالح ولذلك استلهمه ميخائيل نعيمة عنوانا لأحد كتبه فيقول في مقدمة “الغربال” “إن مهنة الناقد الغربلة، لكنها ليست غربلة الناس، بل غربلة ما يدونه قسم من الناس من أفكار وشعور وميول”. فالنقد غربلة وأيّ غربلة تلك التي تغربل الذات والآخر ولكن على أيّ أساس تكون الغربلة؟ فهي مهمّة عسيرة خاصة إذا كان الناقد لا يحسن الغربلة! كلّ ما يدور حولنا يحتاج في الحقيقة إلى غربلة وقد اختلطت الشوائب بكلّ ما هو صاف، فيكون قصد المغربل من الغربلة فصل الحبوب الصالحة عن الطالحة وعمّا يرافقها من الأحساك والأوساخ كما يقول نعيمة. وفي المثل “من غربل الناس نخلوه” فالمغربِل يجب أن يكون متزنا، عادلا ومستقيما حتى يتمكن من الغربلة، وذلك شأن الناقد حسب نعيمة فيقول “ويل للناقدين لأن الغربلة دينهم فيا لبؤسهم يوم ينظرون من خلال ثقوب غرابيلهم، فيرون أنفسهم نخالة مرتعشة في ألوف المناخل!”
الغربال حاضر بقوّة في الثقافة الشعبية العربية من خلال رمزه ودلالته لتتبيّن قيمته ودوره الأساسي في الحياة الاجتماعية وهو ما يردّده القول الشعبي “انخاف انجلك يا غربال… اللي يصفو للعين أقلال! ما ماللي نحسابه غالي…طاح مع جلت غربالي!!”.
ويحضر الغربال اليوم في المتخيّل الرمزي أكثر من حضوره كأداة مادية في حياتنا اليومية لحاجتنا إليه في غربلة الواقع والحياة، والتمييز بين الحق والباطل وبين الصواب والخطأ، فلكلّ امرئ منّا غرباله، ورغم أنّ الغربال المادي مهدّد فعلا بالاضمحلال النهائي للزوال البطيء لنمط العيش التقليدي وغلبة استهلاك المؤونة الجاهزة والمعلّبة في الأكياس التي تُشترى من الدكاكين و”السوبر ماركت”،
إلا أنه مازال يدور دورته السرمديّة بين أيادي المرأة في الأرياف والبوادي العربيّة يقاوم الزمن وتقلّباته معلنا أنّ المؤونة الأصيلة هي التي تمرّ من غربال المرأة وأناملها منذ أن بدأ الإنسان في غابر التاريخ يطحن الحبّ قبل أن يغربله بحثا عن غذاء جدير بإنسانيته.