عنترة بن شداد.. استحضار مستمر لسيرة شعبية من المخيلة العربية

التاريخ العربي لم يجد مثيلا لعنترة فهو وحيد عصره ومضرب الأمثال لدى العرب، فقد تشكلت صورته البطولية من خلال خصاله وقوته وشجاعته الفريدة وازدادت شعبيته لدى الناس إعجابا به وبشعره وتضامنا معه لما عاناه من تمييز وتهميش بسبب نسبه ولونه، إضافة إلى قصته مع عبلة ومعاناته في حبها وحرمانه منها.
ومن الصعب أن تجتمع كل هذه الخصال في شخصية واحدة، أن يكون فارسا محاربا وبطلا بلا منازع يهابه القريب والبعيد لبطش سيفه - وهو ما يدلّ عليه اسمه المشتق من عنتر عنترة أي شجع في الحرب وعنتره بالرمح أي طعنه به كما ورد في لسان العرب - فهو اسم على مسمّى، وفي نفس الوقت شاعر عاشق مرهف الإحساس تجرحه الكلمة وهو الجارح بسيفه ونبيل كريم يشهد على حسن خلقه وشهامته. فلم يكن عنترة مجرّد شاعر كبير وفارس العرب وبطل داحس والغبراء، بل هو رمز لمجدهم وبطولتهم، تظلّ سيرته حية في مخيلتهم تكبر وتتضخم كلما تقدم الزمن.
ورغم تغيّر ظروف العصر ظلّت سيرة عنترة أسطورة يفوح عبقها بروائح الشهامة والشجاعة يتغنى بها العرب تذكيرا بماضيهم المجيد ماضي القوة والانتصار. فكان عنترة ابن العرب وليس ابن شداد العبسي وهو سيفهم المسلول أبدا. الجدير بالتذكير هنا أن القراءات التاريخية كشفت أن عنترة بن شداد تعـود أصوله لمنطقة ليوا القريبة من أبـوظبي.
شخصية عنترة العبسي لم ينحتها الواقع بقدر ما نسجها المخيال الشعبي وأضاف إليها الكثير من الروايات تعزز أسطورته
تمثل سيرة عنترة قيمة الفضيلة عند العرب أصدق تمثيل وتعكس نظام الحياة القبلية في العصر الجاهلي، وهو نظام طبقي تحكمه ثنائية السيد والعبد قوامه الدفاع عن العرض والشرف تتصارع فيه القبائل وتتفاخر بالقوة والشجاعة، فكان عنترة العبسي سيّد قبيلته وهو العبد وقد تغلّبت بطولته على عبوديته فاعتلتقيمته وعظم شأنه فكان انتصاره انتصارا للقيم العربية بل الإنسانية شأن العدل والمساواة والكرامة، وهو ما سعى إليه بسيفه وقلبه ولسانه.
وجاء شعره ترجمة لتجربته الوجودية المتميزة، فهو الفتى المنبوذ والفارس المحارب البطل أبى أن يظلّ عبدا فتمرّدت شجاعته على تقاليد القبيلة ويكفي أن يكون فخر بني عبس.
يعدّ عنترة مثالا للفروسية العربية بخصالها النبيلة السامية التي سجلتها معلقته ومغامراته الحربية، فمن أجل قيم الشهامة والشرف يحارب ويستبسل ويذود عن قومه، فهو دائم الذكر لهم في وغى الحروب.
ما تبقّى من رواة السير الشعبية والحكواتية مازالوا يتداولون سيرة عنترة وكأنها حدثت بالأمس القريب
كما ظلّ المخيال العربي يعيد إنتاج عنترة باستمرار خاصة في فترات الضعف والوهن التي تمرّ بها الأمّة وهي طويلة وكثيرة، يبعثه حاميا لها ونصيرا. فقد لاقت سيرته الشعبيّة رواجا كبيرا في الفترة الاستعمارية الحديثة، خاصة في مقاهي الحواضر وفي أسمار البوادي والأرياف العربية، بحيث شُهّرت هذه البطولات سيفا مسلولا في مواجهة الآلة الحربية الحديثة! ولعلّ هذه البطولات مازالت في وعي العرب إلى اليوم تساعدهم على مواجهة الضيم والقهر، ولكن إلى أيّ مدى يمكن أن تصمد بطولة السيف أمام قوة التكنولوجيا المعاصرة؟
إنّ شخصية عنترة العبسي لم ينحتها الواقع بقدر ما نسجها المخيال الشعبي وأضاف إليها الكثير من الروايات تعزّز أسطورته.
ويقارن البعض بين سيرة عنترة وسيرة السيّد فارس قشتالة الأسبانية وهو الشخصية التي أحياها كورناي وكذلك الإلياذة عند الإغريق ولا سيما سيرة أخيل التي تشبه كثيرا سيرة عنترة وإن تحولت فـي المخيال الإغريقي إلى أسطورة غير واقعـيّة.
وهو ما تصوّره السيرة الشعبية لعنترة بطلا خرافيا وفارسا أسطوريا وبطلا ملحميّا، لذلك تشكل سيرة عنترة وشخصيته ظاهرة شعرية وأسطورية في التاريخ الأدبي وتجربة عربية فريدة من نوعها، وهي ليست تجربة فردية بل تجربة جماعية تلخّصت في فرد مثل قيم الانتماء والتجذّر، الانتماء الجمعي الذي يتوحد مع القبيلة والانتماء الفردي المرتبط بالذات، فامتزجت الشخصية التاريخية بصوت الشاعر الممتلئ بصوت الجماعة التي يعبر عنها في شعره وفي حياته في مزيج بين الواقعي والخرافي.