صراع العروش يعيد بناء العالم السياسي الراهن كغابة من الحكايات

إسطنبول - مع بدء عرض حلقات الموسم السادس من مسلسل “صراع العروش” تُجمع شريحة كبيرة من المشاهدين حول العالم، على أن عهداً جديداً من صناعة الدراما قد رسّخ قواعد عمله، وملامحه التي يأتي في مقدمتها، بناء الحبكات الدرامية على حكايات واسعة الشخصيات والتفاصيل، وفق مستويات زمنية أطول بكثير مما جرى تقديمه في السابق، حيث يمكن للجمهور أن يبقى في حالة ترقب ومتابعة لمدة طويلة، طالما أن ما يشاهده يحقق له المتع التي يريدها.
شيءٌ ما يجري في عالمنا المعاصر، يخلق أرضية لإجراء عملية تغيير كبيرة في آليات تلقي الدراما التلفزيونية، فبعد عقود من تنامي هذه الإنتاجية، وتحوّلها إلى واحدة من أهم الموارد المالية لصناعة الترفيه. وبالقياس مع انتقال الشبكات المنتجة من عتباتها المحلية والإقليمية، إلى عتبات عالمية، تخترق من خلالها حواجز اللغات والثقافات، فإن الضرورات باتت تؤدي بشكل حتمي إلى الانتقال من البنى الدرامية ذات الخطاب السردي البسيط إلى أخرى أكثر توسعاً في دوائرها، وأشد احتداداً في صراعاتها، وأيضاً أقرب إلى الكونية في فضاءاتها مع تفجر كثيف للرموز والعلامات البصرية التي تحتويها، وبما يجعلها تتقاطع مع كمّ هائل من التفاصيل الواقعية التي يعيشها البشر في بدايات الألفية الجديدة.
زمن الكثرة والكثافة
بالمقابل لهذا التصور المختلف، يمكن التوقف عند ملمح قد لا يوافق عليه البعض يقول بأن المسلسلات الدرامية التقليدية لم تعد شيئاً مناسباً في زمن الكثرة والكثافة، فهي تنفع هواة صنفها. وهم هنا البالغون، المتقاعدون، الذين تخطوا العمر الذي تفترضه دراسات الريتينغ مجالها أي (18-42).
هؤلاء كما تفترض الشركات المنتجة، لن يكونوا قادرين على الإحاطة بكل تفاصيل الحبكات الدرامية الضخمة، ليس لأنهم لا يمتلكون القدرة الذهنية، بل لأن لكل عصر أشكاله الخاصة في التعبير، وله طرقه الخاصة في التلقي، وكذلك جمهوره الخاص، الذي سيتماهى مع الأدوات والخطابات، فيصبح ثالثها، وفق المعادلة السردية التقليدية، التي تبنى على وجود رسالة وحامل لها ومتلق يستقبلها.
ولكن كيف يمكن لهذا التحول أن يجري دون أن يلحظه البشر؟ في الحقيقة إنهم لا يلحظونه، لأنهم يشاركون فيه دون أن يقاوموه، فهو يمتعهم، ويغرقهم بالتفكير في تفاصيله.
طلاب كلية التقنية في ميونخ يؤسسون موقع ويب لتحديد أكثر الشخصيات احتماليةً للموت في الموسم السادس من المسلسل، وقد استخدم الطلاب مصفوفة من خوارزميات التعلم الآلي ليحصلوا على تكهناتهم، تمكنت من التنبؤ بـ74 بالمئة من أحداث موت الشخصيات، وهي تقترح الآن موت رامزي سنو بنسبة 64 بالمئة وموت ثيون جريجون بنسبة 74 بالمئة
إن سكّان العالم، الذين وافقوا دون مناقشة على أن يعيشوا جميعاً عالما افتراضيا كما في شبكات التواصل الاجتماعي مثل “فيسبوك” و”تويتر”، لن ينتبهوا كيف أنهم يذهبون جميعاً إلى مشاهدة مسلسل ذي بنية عملاقة وكثيفة، مثل “صراع العروش”، لا بل إنهم ينضمون إلى التجمعات التي تناقش تفاصيله في المنتديات والصفحات الخاصة، وكذلك متابعة صفحات بعض المتابعين الذين تطوعوا لشرح تفاصيله ونقده، والترويج له.
“صراع العروش” مسلسل ينتمي إلى نسق الفنتازيا التاريخية أي تلك الأحداث غير الواقعية التي تأخذ شكل ولبوس التفاصيل التاريخية القديمة، كتب نصه التلفزيوني ديفيد بينيوف ودانيال وايز اقتباساً عن السلسلة الروائية “أغنية الثلج والنار” لمؤلفها جورج آر. آر مارتن.
الصراع في المسلسل يبنى في خطوطه العامة حول النزاع على الأرض والسلطة بين سبع أسر حاكمة لسبع ممالك، يحتدم في لحظةٍ مفصلية، قوامها وجود تهديدين خارجيين خطرين؛ أولهما هو خطر الشتاء الطويل القادم من الشمال، والذي يحمل في ثناياه عودة للموتى الأحياء الذين سيفترسون البشر، والذين قد لا يوقفهم ذلك الجدار العظيم الذي أقيم لصدهم. وثاني هذين الخطرين هو عودة إحدى الأسر الباحثة عن عرشها المفقود إلى الواجهة عبر الاستعانة بقوى خارجية كالعبيد المحررين والتنانين الحارقة.
لكن ما يبدو على أنه ثيمة بسيطة، سرعان ما ينفتح على كمّ هائل من دوائر الصراع، على مستويات الشخصيات الفردية، وعلى مستويات الجماعات، وأيضاً مستويات السلطات الحاكمة في كل مملكة، بالإضافة إلى دخول عناصر داعمة أو مضادة لكل مسار من هذه المسارات وغيرها.
وتبعاً لهذا الشكل غير المحدود من التركيب السردي الدرامي، فإن علينا تقدير حجم التأثير الهائل لكاريزما الشخصيات، التي تقود سيرورة الأحداث، بالإضافة إلى توقع انغماس المشاهدين أكثر فأكثر في التماهي معها.
تراكم الشر في السلطة
ما يستحق التوقف عنده دائماً في كل موسم من مواسم المسلسل، هو قدرة صنّاعه على خلق غير المتوقع، والصادم للجمهور دائماً، إذ تتلاشى هنا فكرة الرهان على انتصار الخير، لتحل مكانها إمكانية التصالح مع انتصار الشر، ثم نهوض الأمل من جديد، وتكرار الهزائم بشكل شبه دائم.
فالصراع الذي تتحكم فيه رغبات شخصيات ذات بنية أخلاقية غير سوية، يحيل في بعض ملامحه إلى تراجيديات شكسبير، لكنه وبسوداوية تذكّر بالقرون الوسطى، يمضي بأحداث المسلسل نحو واقع قاتم تتغلب فيه قوى الشر على كل البؤر المضادة، إلى درجةٍ يشعر معها المشاهد أن الوقائع قد جرى تسييرها ضمن اتجاه أحاديّ الجانب، أي أننا نشهد تهدم الشخصية الخيّرة، ولا نرى في المقابل أيّ ملامح مكافئة من حيث سقوط الشخصية المضادة.
|
السؤال الذي يراود عقل المُشاهد وقد أستفز من هذه الزاوية بعد تهتك مشاعره بالتعاطف مع الشخصيات الطيبة، وصدمته بهزيمتها وقتلها في نهايات المواسم السابقة، يدور عند الغالبية حول الغاية من تلك الحواف والذرى التي أراد صناع العمل أن يوصلوا المشاهد إليها، بشكل يتضاد مع رغباته بتوفير جرعات من الأمل تعينه في مواجهةِ كل الخراب الذي يعيشه العالم الراهن؟
وفي الحقيقة إن هذا السؤال التقليدي، قد لا يجد جواباً له في حال تمّت قراءة المسلسل من زاوية الصراع بين الخير والشر، لأن زواياه الحادة تحفر أكثر في أسئلة وجودية كالمصير والقدر، والعلاقة بين ظواهر إنسانية راسخة منذ بدء الخليقة، ومقاربتها مع الدين، ومع السلطة. بالإضافة إلى القيام بتشريح للتحولات التي تعتري الفرد في مسار مواجهاته مع كل ما سبق، وكأننا بصنّاع العمل يريدون أن يجعلوا المُشاهد في مواجهة مع عالم موازٍ للعالم الحقيقي الذي نعيشه راهناً، فهم يعيدون إنتاجه بمعطياته العامة، حيث تتوزع الممالك على قارتي ويستروس وإيسوس، وتتعدد السلطات وتتجابه المصالح، وتنقض التحالفات، ويجري تدمير شعوب كاملة، بينما يعلو فجور المتحكمين بالبشر.
هذا التقابل بين المسلسل وبين ما يجري في عالم اليوم، ليس أمراً غائباً عن جمهور المشاهدين الذين التقطوا إشاراته في المنطقة العربية، فقاموا على سبيل المثال بتشبيه شخصية بشار الأسد رئيس النظام السوري بشخصية جوفري براثيون، الذي ورث الملك وتعامل بوحشية مع شعبه ومات مسموماً، كما تم تشبيه زوجته أسماء بشخصية سيرسي لانستر والدة جوفري التي تتحكم في وقت ما بمجمل حركية الصراع في المسلسل. كما أن هذه الإشارات تتكرر لدى الكثير من المشاهدين في مناطق مختلفة من العالم حيث يحفل الساخرون بتشبيه أوباما وبوتين وغيرهما بمن يقابلهما من شخصيات المسلسل.
لقد تم طرح سؤال السلطة في الدراما التقليدية مراراً وتكراراً مع التركيز على الفعل الأخلاقي للقائمين عليها، لتبدو الأفعال مصاغة ضمن سياقها، إما أخلاقية أو لا أخلاقية، كما أن السلطة في الدراما الشكسبيرية تقف عند المفترق: إما أن تكون بؤرة تصدر الخير، وإما أن تكون مصدراً للشر، ولكنها سرعان ما تتحول إلى شر مطلق. غير أن ما يقدمه “صراع العروش” من اشتغال على هذه المعادلة يبدأ من تراكم الشر في السلطة، حيث لا يصبح بالإمكان النجاة من الغرق فيه، وضمن هذا المنحى تبدو شخصيات المسلسل غارقة في صراعاتها الوجودية إلى ما لا نهاية، مثلها مثل البشر في العالم المعاصر، يلهثون وهم يناضلون كي ينجوا من تغول قوى المال والسلطة على حيواتهم، وطالما أن الفضاء الذي يقدمه المسلسل يشبه واقعهم، فإن لكلّ واحد منهم حصته من التشابه، ففي صراع العروش مساحة لكل الفجائع والكوارث الراهنة. وهناك أيضاً نوافذ لخيارات متاحة أمام الشخصيات، يتمنى المُشاهد لو يتدخل فيها في لحظة ما! ولكن قدرها يطغى ويصبح مصيرها بالتالي محتوما ولا فكاك منه.
|
البناء الرياضي للشخصية
من خلال متابعة المواسم السابقة وقراءة تفاصيل آلية معالجة الرواية وتحويلها إلى سيناريو تلفزيوني يشترك فيه عدد من الكتاب البارعين، يتضح للمتابعين كيف أن بناء الخطوط السردية لم يعد مسألة تَتبعُ خيار المؤلف وحده، بل أضحى حصيلة لتكثيف رؤى الفريق، وبما يخلق مساراً رياضياً (من الرياضيات) لتطور الشخصية ودورها وحضورها وصولاً إلى لحظة غيابها عبر الموت.
هذا ما التقطه طلاب علوم الكومبيوتر في كليّة التقنيّة في ميونخ حيث قاموا بإنشاء موقع ويب يحدد أكثر الشخصيات احتماليةً للموت في الموسم السادس من المسلسل، وبحسب موقع “مرصد المستقبل” استخدم الطلاب مصفوفةً من خوارزميات التعلم الآلي ليحصلوا على تكهناتهم، تمكنت هذه الخوارزمية من التنبؤ بـ74 بالمئة من أحداث موت الشخصيات في الكتب والسلسلة التلفزيونية، وهي تقترح الآن موت رامزي سنو بنسبة 64 بالمئة وموت ثيون جريجون بنسبة 74 بالمئة. وعن هذا قال د. غاي ياخداف مدرس الطلاب الذين أنشأوا هذا الموقع “إن العوالم الملحمية التي ابتكرها جورج آر. آر مارتن زودتنا بكمية غير منتهية من مصادر المعطيات ذات أبعاد عديدة”.
أرقام خارج المألوف
كانت شبكة “إتش بي أو” أو “هوم بوكس أوفيس″ التابعة لعملاق الإعلام تايم وارنر قد أطلقت الموسم الأول من هذا المسلسل في شهر أبريل من العام 2011، ولكن أحداً لم يكن يتوقع أن تصل نسب مشاهدته إلى ما وصلت إليه في ذلك العام.
فبحسب أرقام الشركة شاهد الحلقة الأولى منه ساعة بثها ما يقارب المليونين وربع المليون من المشتركين بالشبكة (مشاهدة مدفوعة الثمن). ولم ينقض عرض ذلك الموسم حتى انتهى إلى ارتفاع نسبة مشاهدي الحلقة الأخيرة منه أعلى من حافة الثلاثة ملايين.
وفي العام 2015 في الفترة التي شهدت بث موسمه الخامس، تجاوز عدد مشاهدي الحلقة الأولى الثمانية ملايين. خارج هذه الأرقام الرسمية هناك تقديرات مختلفة تنظر في عدد المشاهدين عبر الشبكات التلفزيونية التي قامت بعرضه خارج الولايات المتحدة. وكل هذه التقديرات تؤشر على أن ما صنعه هذا المسلسل يخترق كل المستويات السابقة، كما أن عمليات القرصنة التي تعرضت لها حلقات المواسم السابقة تبدو غير مألوفة حيث ذكر موقع “تورنت فريك” أن المسلسل سجل أعلى معدلات قرصنة في أعوام 2012 و2013 و2014، إذ تم تحميل الحلقة الأولى حوالي 4.280.000 مرّة على التورنت في 2012.
هذا عملياً يزيد عن عدد مُشاهدي البث الفعليّ للمسلسل، حيث كانت النسخة التي تصدر على التورنت هي أكثر الملفات التي يتم تحميلها وتبادلها في تاريخه مع أكثر من 160 ألف موزّع وملايين المُحمِّلين. وقد حُمّلت الحلقة الأخيرة من الموسم الرابع أكثر من 1.5 مليون مرّة في غضون الـ12 ساعة الأولى. مما حقق رقماً قياسياً للتحميل غير القانوني. وبعد شهرين من انتهاء الموسم الرابع، وصلت مُعدلات التحميل نحو 300 ألف يومياً. أما في الشرق الأوسط، فإن جزءاً قليلاً يتابعه عبر الشبكات المشفرة (مدفوعة الأجر) بينما تقوم الغالبية العظمى بمشاهدته مُقرصناً عبر الويب وملفات التورنت.