باز ألدرين يعلن خطته المتكاملة لغزو المريخ

إسطنبول- قالت هوليوود كلمتها، وأعلنت “يمكن للبشر أن يعيشوا على كوكب المريخ”. هذا ما شاهده عشّاق السينما في فيلم “المريخي” للمخرج ريدلي سكوت خلال عام 2015، حيث ناضل رائد الفضاء مارك واتني (مات ديمون)، من أجل البقاء على قيد الحياة بين جبال وأودية قاسية، تشكّل وحدها مجموع تضاريس سطح الكوكب الأحمر، بعد أن تخلى عنه رفاقه إثر عاصفة عملاقة ضربت مقر بعثتهم، ظناً منهم أنه قد فارق الحياة.
الفيلم المأخوذ عن رواية “المريخي” للكاتب آندي وير، حقق إيرادات جيدة لمنتجيه، بعد أن ركز على إرادة الإنسان وذكائه، حينما يبرعان في خلق طرق الاحتيال على فقر الموارد، ووضعها في خدمة “المريخي” الذي يريد الحفاظ على أسباب البقاء، حتى توفر إمكانية عودته إلى الوطن، وهو أمر لم يحدث دون أن يقوم العالم كله بالمساعدة من أجل تحققه.
ذلك المدار البعيد
تستطيع السينما، وكل الفنون التي تقوم على الضخ في الخيال، أن تقول ما تريد، وقد حصل هذا طويلاً، إذ سبقت الأفلام وكذلك الأدب، العلم تاريخياً، حينما افترضت إمكانية زيارة البشر للقمر قبل هبوط أول مركبة أميركية مأهولة على سطحه بعدة عقود. ولكن هل يكفي هذا من أجل اعتبار إمكانية استيطان المريخ، أمراً قابلاً للتحقق في وقت قريب؟
رائد الفضاء الأميركي باز ألدرين يقول كلمته بالتوازي مع السينما، ويعلن أن الوقت قد حان لكي تخطو البشرية خطوة في هذا المضمار، ولتمضي صوب المريخ، ليس عبر رحلات تبنى على اتجاهي الذهاب والإياب، بل على الذهاب من أجل البقاء هناك، والبدء باستعمار الكوكب. حيث أعلن في لقاء صحافي نشر في موقع “بي بي سي مستقبل” قبل عدة أيام أن” أول من يذهب إلى المريخ سيكون في مكانة مشرّفة، لكننا سنعيده إلى الأرض ثانية. لكن أول إنسان سيقيم هناك بشكل دائم سيخلّده التاريخ”. ولكن هل يمكن القيام بذلك فعلاً؟ لطالما شغلت المؤسسات العلمية بالأمر. فالقضية هنا لا تتعلق برحلات فضائية اعتيادية، بل تذهب أبعد من ذلك بكثير. يجيب ألدرين على السؤال من خلال خطته التي تقوم على “استعمال مركبات الفضاء كحافلات للنقل في مدارات سريعة جيئة وذهاباً بين قمر الأرض وقمر فوبوس، أكبر قمر تابع للمريخ، والرسو بمركبات فضائية أصغر حجماً حينما يصلون إلى ذلك المدار”.
باز ألدرين مسكون بالمشروع الفضائي، فقد نظم مؤتمرا حول غزو الكوكب الأحمر في جامعة جورج واشنطن، داعيا إلى المبادرة بمساعدة القطاع الخاص إلى إرسال رجال فضاء إلى المريخ لتأسيس مستعمرة دائمة هناك. مؤكدا أن على الولايات المتحدة أن تبقى رائدة في الرحلات الفضائية المأهولة
كانت فكرة ألدرين الأصلية وبحسب الصحافية سو نيلسون “هي الذهاب والإياب في رحلات إلى القمر، بهدف السياحة الفضائية. حيث بإمكان المسافرين الاستمتاع بالمنظر من مركبة فضاء بدلاً من الهبوط على سطح القمر”.
ولكن وكالة ناسا لم تكن مهتمة كثيراً بهذه الفكرة بحسب قول رائد الفضاء الذي بلغ الـ86 من العمر، فقد “أجرى الروس تجارب في هذا الاتجاه لكن لم تكن المركبات الفضائية مأهولة. وبدا واضحاً أنهم على وشك تنفيذ الفكرة وحمل بشر في هذه المركبات، لكن التكلفة المادية مرتفعة جداً، وليس هناك من هو مستعد لدفعها”. وبناء على اقتراح الرئيس السابق لناسا، طبّق ألدرين فكرته على المريخ بدلاً من القمر.
السلم الصاعد
شرح الآلية ليس معقداً، بل هو بسيط من الناحية الإجرائية، كما يقول ألدرين. إذ أن “بعض الناس رغبوا في تسمية ذلك المشروع باسم ‘السلّم الصاعد’ الذي يصعد إلى المريخ ويهبط ثانية. حسناً لقد علمني باكمنستر فولر (مهندس معماري وعالم اشتهر ببنائه للقبة الجيوديسية وتصوراته المستقبلية للمدن التي تشبه مدن الخيال العلمي) أنه في الفضاء لا يوجد صعود وهبوط، وإنما يوجد خروج ومن ثم عودة”.
أصبح هذا النظام يعرف باسم “سايكلر أوربت”، وهو مدار حول الشمس يمر بالمريخ والأرض. والهدف الآن هو استخدام مركبة فضائية كبيرة تشبه حافلة النقل، تدور جيئة وذهاباً بين هذه الأجرام. وتعمل الجاذبية الخاصة بكل كوكب بمثابة مقلاع يزيد من سرعة المركبة الفضائية، ويقلل من الوقود اللازم، ويترك مساحة معيشة إضافية لرجال الفضاء. وستقوم مركبات فضائية صغيرة على غرار التاكسي بنقل رجال الفضاء من الأرض إلى سفينة فضائية أكبر، والفكرة هي استخدام أكبر أقمار المريخ فوبوس كمنطلق لاستعمار المريخ.
|
ولد باز ألدرين في 20 يناير عام 1930 في ولاية نيوجيرسي الأميركية، وبعد حصوله على الشهادة الثانوية في عام 1947، توجه للدراسة في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا بعد أن حصل على منحة دراسية فيه. وبعد ذلك انتقل إلى الأكاديمية العسكرية الأميركية في ويست بوينت، ليتخرج في العام 1951، بعد حصوله على درجة بكالوريوس العلوم في الهندسة الميكانيكية.
شارك في الحرب الكورية بوصفه ملازماً في القوات الجوية للولايات المتحدة، حيث خدم كطيار مقاتل. وبعد الحرب، تم تعيينه مدرساً في قاعدة نيليس الجوية في ولاية نيفادا، وكان أحد مساعدي عميد أعضاء هيئة التدريس في أكاديمية القوات الجوية للولايات المتحدة، وتم قبول باز ألدرين ضمن طواقم رواد الفضاء في وكالة ناسا بعد أن حصل في عام 1963على درجة الدكتوراه في علوم الفضاء من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، عن دراسة تناولت نظرية “التحام مركبتين فضائيتين مأهولتين في المدار حول الأرض”. وقد استطاع أن يضعها موضع التطبيق العملي بعد ذلك بثلاث سنوات في الرحلة الفضائية “جيميني 12”.
غير أن الخطوة التي نقلته إلى دائرة الضوء ليس على كوكب الأرض فقط بل على سطح القمر، جاءت في العام 1969 حيث قاد كربّان المركبة القمرية أبولو 11 مع زميليه نيل أرمسترونغ ومايكل كولينز، والتي هبطت على سطح القمر بتاريخ 20 يوليو، وقد سجل التاريخ اسمه بوصفه ثاني رائد فضائي تطأ قدماه أرض القمر التي مشى عليها وأخذ مع زميله 21 كيلوغراما من صخورها وتربتها كعينات وبعد أن أجرى بعض التجارب التي كُلّف بها، عاد إلى المركبة بعد أن بقي على سطح القمر مدة ساعة و51 دقيقة و37 ثانية.
ترك ألدرين ناسا في العام 1971، وأحيل على التقاعد بعد ذلك بسنة واحدة، وعلى هامش مشاكل حياتية متعددة. نشر كتابه الأول “العودة إلى الأرض” في العام 1973، وتابع بحوثه العلمية ضمن مجال اختصاصه الأكاديمي، حيث شارك في العديد من المؤسسات العلمية، كما ساهم في عدد من الأفلام الوثائقية العلمية.
أحلام باز ألدرين، لا تبدو مجرد نزعات رائد فضاء متقاعد، بل هي مقدمة لحياة بشرية جديدة على كوكب آخر، بكل ما تعنيه المسألة من معانٍ وتفاصيل
العيون إلى المريخ
في عام 1987 أسس ألدرين برنامج الدراسات العليا لبحوث الفضاء في جامعة ولاية داكوتا الشمالية، ولكنه في العام 2013 قرر أن يُخرج للعلن بعضاً ممّا يفكر فيه حيال كوكب المريخ. فكتب في صحيفة النيويورك تايمز عن ضرورة التوجه صوب هذا الكوكب، ثم أكد على فكرته في مؤتمر حول غزو الكوكب الأحمر نظم في جامعة جورج واشنطن، حين دعا إلى المبادرة بمساعدة القطاع الخاص على إرسال رجال فضاء الى المريخ لتأسيس مستعمرة دائمة هناك. مؤكداً أن على الولايات المتحدة أن تبقى رائدة في الرحلات الفضائية المأهولة، كما يمكن الاعتماد على دينامية القطاع الخاص لتطوير نظام يسمح للبشر باستيطان المريخ في حلول العقدين 2030 و2040. ورغم أن هذه الآراء لم تلق قبولاً من مدير ناسا تشارلز بولدن، الذي رأى أن الولايات المتحدة ليست مستعدة للمضي نحو المريخ تقنياً، فإنّ ألدرين شرح مقومات فكرته أمام الجمهور بالقول “علينا أن نركز اهتمامنا وجهود وكالة الفضاء الأميركية من أجل إرساء وجود بشري دائم على المريخ، إذ يمكنها الاستفادة من المعرفة المكتسبة بفضل غزو القمر، ومن التجارب التي أجريت في محطة الفضاء الدولية”، معتبراً أن “الأبحاث الأساسية قد أجريت” من أجل القيام برحلة مأهولة إلى المريخ.
وفي نهاية شهر أغسطس من العام الماضي 2015 نقلت وكالة رويترز عن مسؤولين في ناسا خبراً يقول بأن باز ألدرين سيشغل منصب كبير الباحثين في مؤسسة جديدة ستحمل اسمه “باز ألدرين للفضاء” في معهد “فلوريدا للتكنولوجيا” (فلوريدا تيك)، على بعد نحو 64 كيلومتراً جنوب مركز “كنيدي للفضاء” التابع لـ”إدارة الطيران والفضاء” (ناسا) في ملبورن، ضمن برنامج يمهد الطريق نحو إنشاء مستوطنات دائمة على كوكب المريخ بحلول عام 2040. ثم التوسع بعيد الأمد لاســتكشاف الفضــاء والذي يشمل مبادرات للرحلات المأهولة واستخدام الروبوتات والعلوم.
ولكن هل تستعد البشرية جمعاء أو الولايات المتحدة الأميركية لهذا الخيار الذي يعمل ألدرين من أجله؟ المتابعات العلمية لقضية كوكب المريخ توضح بأن هناك اشتغالا نظريا وعلميا على هذا الاحتمال، وإذا كانت مراكز الأبحاث تتجهز تقنياً للأمر ضمن مشاريع بالغة التكاليف، فإن العلماء استرعتهم القضية من جوانب أخرى لا تقلّ أهمية عن مسألة الاستعداد للرحلات القادمة، إذ أن البدء باستيطان الكوكب يفرض جملة من الإشكالات، تبدأ بالسؤال عن كينونة المستوطنين الذين سيكونون مرّيخيين بمجرّد أن تطأ أقدامهم تراب الكوكب، ما يعني أن عليهم التجهيز لإنشاء وحدات مجتمعية كاملة ستستمر في العيش هناك، مع العمل على قوانين تنظم معيشة هؤلاء، وتخلق لهم نظاماً سياسياً مستقلاً، يستند على ديمقراطية خاصة، لا تسمح لسيطرة فئة أو زعيم على القرار السياسي.
مجتمع المريخيين
|
ضمن هذا المسار يتحدث جاكوب هاك-ميسرا الباحث في معهد “بلو ماربل لعلوم الفضاء” بالولايات المتحدة عن الأمر مع روز إيفيليث الكاتبة في شؤون العلوم والتكنولوجيا قائلاً “هناك إمكانية لبناء حضارة مختلفة على سطح المريخ عن تلك الموجودة لدينا. الفكرة في غاية البساطة؛ فبدلاً من تواصل البشر الذين نرسلهم إلى المريخ مع الشركات والمؤسسات التي ترسلهم من الأرض، ينبغي أن يمنحوا استقلالاً كاملاً”.
ويحدد هاك-ميسرا خمسة مبادئ لذلك التحرّر أو الاستقلال المطروح:
أولاً: أن يتخلى البشر الذين يهبطون على المريخ عن جنسياتهم الأرضية. فهم مريخيون الآن وليسوا أرضيين.
ثانياً: إن الحكومات والشركات والناس الموجودين على الأرض، لا يمكنهم التدخل في العملية السياسة أو الاقتصادية التي تجري على أرض المريخ. وذلك يعني أنه لا توجد تجارة بالإكراه، ولا يوجد تدخل اقتصادي، ولا صفقات سرية للبضائع والخدمات.
ثالثاً: البحث العلمي لاستكشاف كوكب المريخ يمكن أن يستمر طالما لم يتدخل في ما تنتجه الحضارة هناك بشكل مستقل.
رابعاً: استخدام أرض المريخ أمر يبتّ فيه المريخيون وحدهم.
خامساً: إن أيّ شيء تم إحضاره من الأرض إلى المريخ يصبح مريخياً، ولا يحق لسكان الأرض المطالبة باستعادته.
إذن، وبحسب ما سبق، لا يبدو أن أحلام باز ألدرين، هي مجرد نزعات رائد فضاء متقاعد، بل هي مقدمة لحياة بشرية جديدة على كوكب آخر، بكل ما تعنيه المسألة من معانٍ وتفاصيل. ويبدو أن السباق بين الأمم المتقدمة نحو المريخ قد أعلن، إذ أن ثمة ثلاثة مشاريع قادمة للتوجه صوب الكوكب الأحمر، تبدأ مع الولايات المتحدة ثم الاتحاد الأوروبي ثم الصين.
ولكن في أيّ موقع من هذه الخطط المستقبلية يجد باز ألدرين نفسه؟ حماس الرجل لفكرته يُشعر الكثيرين بأن ثمة شيئا غريبا في قصة رجل يمضي نحو نهاية العقد الثامن من عمره، ولكن ألدرين يدرك بأن ما يخطط له وما يعمل من أجله لن يتحقق أثناء حياته.
ولهذا فإنه يجيب الصحافية سو نيلسون عن هذه النقطة بالقول “لن أكون على قيد الحياة عندما يستوطنون المريخ، ولكن سيكون لديك الكثيرون للقيام بهذا الأمر، والذين سيكونون من الباحثين والمغامرين الذين يحفرون في الصخر، ويبحثون عن الأميبا متناهية الصغر، أو يدرسون الحفر، ولكن من سيفعل ذلك لست أنا”.