الوشم.. رمز تراثي محمل بدلالات تختصر الحضارة الإنسانية

يرتبط الوشم والوسم من منظور أنتروبولوجي بالبيئة الاجتماعية والتاريخية وبطقوس دينية وشعائرية تعود إلى التاريخ القديم والحياة البدائية التي تسيطر عليها الأساطير والمعتقدات، حيث يكون لكل عشيرة الوشم الخاص بها الذي يميزها عن بقية العشائر ويرمز إليها. وتستمدّ هذه الوشوم من البيئة والمعتقدات السائرة، فتتشكل في رسوم ترمز إلى الطبيعة في أحد مظاهرها من النبات أو الحيوان لتقديسها أو الخوف منها، فيكون الوشم تعويذة ورمزا موسوما على الأجساد ومرسوما في الذاكرة والمخيال.
وبين الوسم والوشم تشابه لغوي ودلالي وفرق طفيف بين السين والشين لا غير، فكلاهما أثر يرمز إلى معنى ما. فالوشم كما جاء في لسان العرب غرز الإبرة في البدن وذرّ النيلج عليه، وما يحدثه الوشم في اليد من خطوط، ووشَم اليد: غرزها بالإبرة ثم ذرّ عليها النيلج فصارت فيها رسوم وخطوط. والوسم أَثرُ الكَيّ، ووسَمَ يعني أَثَّر فيه بِسِمَةٍ وكيٍّ، واتَّسَمَ الرجلُ إذا جعل لنفسه سِمةً يُعْرَف بها، والسِّمةُ والوِسامُ: ما وُسِم به البعير من ضُروبِ الصُّوَر والوَسْمُ أَثرُ كيَّة، تقول مَوْسوم أَي قد وُسِم بِسِمة يُعرفُ بها، تكون علامة له.
فالوشم وسم والوسم وشم وكلاهما أثر يتشكل في خطوط ورسوم تسم الموشوم لأغراض جمالية واجتماعية. ومن نفس جذر وسم نجد معنى الوسامة أي الحسن والجمال، وهو ما يحيل على الجانب الجمالي للوشم الذي اتخذته النساء العربيات قديما مقياسا للجمال والزينة يعوّض الحلي، بينما مثل الوشم لدى الرجال مظهرا من مظاهر القوة والتفاخر وله علاقة كذلك بوسم الإبل والغنم بوسوم ترمز إلى القوة مثل وسم الحيّة أو الأفعى وهي من الوسوم القديمة الجذور، فيقال “جمل مُفَعَّى” و”إبل مفعّاة” إذا وسمت به، وهو وسم ملتوٍ يكون في الفخذ أو العنق يرمز لدى العرب إلى القوة والحياة والموت، وهي من المعاني الأساسية التي شكلت معتقدات الناس.
الوشم وسم والوسم وشم وكلاهما أثر يتشكل في خطوط ورسوم تسم الموشوم لأغراض جمالية واجتماعية
ومن خلال الوشم تبرز المرأة أنوثتها وجمالها ويشير الرجل إلى قوته وفحولته، وبواسطة الوسم يسم العرب أغنامهم وإبلهم لتمييزها عن باقي الأغنام والجِمال أو نوق الآخرين حين تختلط ببعضها في المرعى، ولحمايتها كذلك من السرقة من خلال وسوم ترمز إلى القوة، وفي ذلك تحذير للأعداء ولصوص الماشية من الاقتراب منها. فيكون الوشم والوسم علامتين مميزتين وأثران واضحان يعبران عن نمط عيش مخصوص ومعتقد شعبي تمتزج فيه الأبعاد الأنتروبولوجية والنفسية.
ومن المنظور النفسي يمثل الوشم قديما رقية شفائية يقوم به الناس طلبا للشفاء أو سبيلا لطرد الحسد، فكان قدماء العرب يضعون وشما على جزء من جسم المريض وجهه أو رأسه أو ظهره وفقا لموضع الألم فيشفى، كما تلجأ الأمهات إلى وشم أطفالهنّ حتى يزول عنهم الألم أو وقاية لهم من الأمراض المهدّدة. فيكسبهم الوشم راحة نفسية وطمأنينة مادام الوشم يلازمهم إلى مماتهم، فهو منقوش في أجسادهم وأذهانهم باعتباره تميمتهم وتعويذتهم إلى جانب ما يمثله من زينة وتبرّج ليشكل جزءا من حياتهم اليومية ويعبر عن بساطة عيشهم ولكنها بساطة لا تخلو من عمق دلالي يتداخل فيه الوعي الجماعي باللاوعي الذي يهدد حياتهم البدائية من خلال خوفهم من الضياع والفقدان فيلتجئون إلى الوشم حتى يجمعهم ويوحدهم في قبيلة واحدة وفي طقس واحد، فيجمعهم نفس الوشم وتجمعهم الهوية ويكون وشمهم عنوانا خاصا بهم يميزهم عن بقية القبائل الغريبة، فيصبح الوشم درعا للحماية ضدّ الآخر ووسيلة لمحاربة العدم والفناء يرسم حدود معتقدات الشعوب ورغباتها المنسجمة مع بيئتها وثقافتها.
يرتبط الوشم بالبيئة الاجتماعية والتاريخية وبطقوس دينية وشعائرية تعود إلى التاريخ القديم
الوشم وسم لثقافة ومعتقد عميق الدلالة والرمز قد يرمز كذلك إلى قوة المشاعر والعلاقة التي تربط بين الرجل والمرأة، فيعمد المحبّ إلى رسم اسم الحبيب أو صورته على ذراعه أو صدره حتى يعبّر عن مدى حبه وتعلقه به، وهو بمثابة تأكيده وتخليده، ماديا ومعنويا، حتى يظلّ حبه باقيا بقاء الوشم الذي من الصعب جدا أن يمحوه الزمان من الجسد.
وهكذا يعود الوشم في صورة متطورة تتمثل في “التاتو” (التاتواج) من خلال نماذج يرسمها الشباب تتماشى مع عصرهم. وقد يكون الوشم متوارثا عن الآباء والأجداد في بعض الأرياف والبوادي، فيحبذ الأبناء إعادة رسم الوشم الذي رسمه الأب أو الجد على أعضاء من أجسادهم بعينها، وهو ما نجد له أثرا في بوادي المغرب العربي والجزيرة العربية يعبّر عن الرغبة في التجذر بالانتماء العائلي، كما في وراثة الأسماء من جيل إلى جيل وأب عن جد دلالة على الاعتزار بهذا الانتماء وتعبيرا عن الوفاء للسلف من أحسن خلف، وهي طريقة لا تخفى قيمتها الأنطولوجية بوصفها مقاومة ثقافية جسديّة للموت والفناء.