التحية سلوك ثقافي يعبر عن قيم تختلف باختلاف الشعوب

عادة أهل اليابان مثلا عندما يحيون أحدا أن ينزعوا أحذيتهم من أرجلهم، بينما يرتمي الهندوسي على الأرض أمام من هم أرفع منزلة منه تحية لهم. ومن عادات بعض أهالي الهند أن يقبضوا بأيديهم على لحي بعضهم، ويقوم الناس في الموزمبيق بالتحية من خلال التصفيق بالأيدي ثلاث مرات قبل قول كلمة “مرحبا”.
وللتحية أهمية كبيرة لدى العرب ترتبط بالسلم والسلام الذي يمثل أهمّ القيم الإنسانية، وهي رمز للتواصل المتبادل بين الناس، تدلّ على تواصل الحياة، وهو ما يبينه المعنى اللغوي للتحية المشتقة من الجذر (ح، ي، ي) الدالّ على الحياة ضد الموت كما ورد ذلك في لسان العرب وذكر ابن منظور أن السلام هو التحية، وحيّاه تحيّة: قال له حياك الله أي أطال عمرك – سلّم عليه، حياه الله: أبقاه، وأهلا وسهلا كلمة ترحيب تعني صادفت أهلا لا غرباء ووطئت سهلا لا وعرا – وسلم عليه قال له سلام عليك – واستلم الحجر مسحه بالكف (من السلمة أي الحجر) قبله واستلمت يده إذا مسحتها أو قبلتها. والسَّلامُ في الأَصل يعني السَّلامة، يقال: سَلِمَ يَسْلَمُ سَلامًا وسَلامةً ومنه قيل للجنة: دار السَّلام، لأَنها دارُ السلامَة الدائمة التي لا تنقَطع ولا تَفْنى، وهو نفس معنى التحية في قولنا حياك الله أي أبقاك وأطال في عمرك، كَمَا يُقَال: اللَّه مَعَك، وَاللَّه يَصْحَبك؛ وَقِيلَ: السَّلَام بِمَعْنَى السَّلَامَة، أَيْ السَّلَامَة مُلَازِمَة لَك.
فالتحية هنا تصبح معاهدة ووفاق بين المسلِّم والمسلَّم عليه، على السلامة والسلم، فَكأنّ الْمُسَلِّم أَعْلَم مَنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ أَنَّهُ سَالِم مِنْهُ وَأَنْ لَا خَوْف عَلَيْهِ مِنْه. وهو ما نجده في معنى أهلا وسهلا عند العرب الدالة على الترحيب وهي العبارة التي تلخّص سلوك القبائل العربية قديما وتختزل قيمة أصيلة وهي قيمة الكرم الذي يبدأ بالترحيب وهو ترحيب خاصّ يعكس البيئة التي نظمت حياة هؤلاء الناس وهي تمتدّ بين الأهل والغرباء وبين السهل والوعر، فمعنى أهلا وسهلا ليس مجرّد ترحيب وإنما هو سياسة القبيلة وموقفها ونظامها في التعامل مع الآخر فإن كان أهلا فيعني أنه ليس غريبا وليس عدوّا وبالتالي لا يرتاب منه ويرحب به داخلها ومعنى سهلا أنه وطئ أرضا سهلة وليست وعرة، بها يمكن له أن يطيب مقامه في أمن وسلام.
التحية تتخذ دلالات عدة وتستمد قيمتها من خلال دورها في بناء المنظومة الأخلاقية التي تعكس طبيعة المجتمع وهويته وثقافته
فالتحية ثقافية أو لا تكون تختلف باختلاف الشعوب وهي طقس متوارث عبر الأجيال قد تغزوه العولمة في المدن الكبرى ولكنه يظلّ محافظا على أصوله خاصة في الأرياف والبوادي. وهو ما يبين تواصل استعمال تعبير أهلا وسهلا الذي يختزن نية الترحيب والإكرام حتى وإن لم يكن محققا بالفعل ولكنه ظلّ مخزونا في الذاكرة العربية الجماعية وهو من رواسب الأصول العربية القديمة التي تغيرت مقاييسها بحكم تغيّر الظروف والعصر.
وللتحية أحكام وآداب في الثقافة العربية إذ يكون الأفضل في الابتداء بالسلام أن يسلم الصغير على الكبير، والماشي على الجالس، والراكب على الماشي، والقليل على الكثير، وهي أنواع وطرقها عديدة ومختلفة حسب اختلاف الشعوب وثقافاتها فتكون بمصافحة اليد أو التقبيل أو العناق، وتعتبر المصافحة أكثر الطرق انتشارا، فهي التحية المشتركة عالميا. وتكون التحية كذلك بتقبيل اليد عند العرب أو تقبيل الأنف أو الكتف كما هو الشأن في بعض دول الخليج وفي مناطق مختلفة من المغرب العربي ويمثل ذلك عند الناس تعبيرا عن الاحترام والأنفة.
ليست التحية إذن مجرّد كلمة تقال أو حركة تجسَّد وإنما هي سلوك ثقافي يعبّر عن نمط عيش ومبادئ وقيم أخلاقية وهي كما تمتّن العلاقات بين الناس من خلال تبادلها من شأنها أن توتّر كذلك هذه العلاقات إن أساء أحدهم مثلا إلقاء التحية على الآخر أو ألقاها ببرود أو لم يردّها وهو ما يشير إلى أهمية التحية وارتباطها بالمستوى الأخلاقي للفرد والمجتمع.
تتخذ التحية دلالات عدّة وتستمدّ قيمتها من خلال دورها في بناء المنظومة الأخلاقية التي تعكس طبيعة المجتمع وهويته وثقافته. وهي سلوك يومي يمارسه الإنسان في بيته وفي الشارع وفي عمله وفي كل الأوقات، فالتحية أنواع تحية صباحية تكون في الصباح بقولنا صباح الخير وتحية مسائية تكون في المساء بقولنا مساء الخير، وفي التحيتين تأكيد على الخير ودعاء به. ويقال كذلك تحية قلبية وتكون من القلب وهو تعبير مجازي للدلالة على صدق التحية والمحبة.
فالتحية أساس من أسس التواصل بين الناس إن انقطعت انقطع التواصل والعلاقات بين الأفراد والمجتمعات وهذا الدور الذي تلعبه التحية في تمتين العلاقات وتحقيق التواصل هو دور اجتماعي أخلاقي يساهم في بناء وحدة الأفراد داخل المجتمع ومن ثمة تماسك بنيته ومنظومته الأخلاقية. فالتحية هي أكثر من تحية، هي رسالة لنشر الودّ والسلم والخير وتحقيق التواصل بين الناس، وإن اختلفت في عباراتها وطرقها فإنّ هدفها يظلّ واحدا وهو التواصل بما يتضمّنه من رغبة في تحقيق السلام والخير وهو من أهمّ المبادئ الإنسانية.