ظاهرتان نكوصيتان: التطرف الأصولي والأنظمة السلطوية

الثلاثاء 2016/03/22

قيل الكثير في التطرف كتابة وشفاهة، ولم يُستنفد القول فيه، لأنه ظاهرة أكثر تعقيدا مما يظن البعض، وإذ يفسر العرب الظاهرة لا يبررونها طبعا، يُفسرونها كي يتعاملوا معها تاريخيا بوصفها ظاهرة نكوصية لا تحمل في أحشائها قوة التقدم التاريخي، كأي ظاهرة نكوصية أخرى.

بعيدا عن جملة شروط ظهور هذه الظاهرة، تعود أسئلة غاية في الأهمية إلى الظهور من قبيل: لماذا أخذ التطرف السياسي في العقدين الأخيرين صيغة التطرف الإسلامي؟ ولماذا تأتي جماعات تحمل السلاح المميت ورأسا مليئا بأيديولوجيا الخلاص الدينية ـ الإسلامية؟ وهل يمكن التخلص من عذابات الأرض بوصفة من السماء كما يدّعون؟ وهل جرثومة التطرف قابعة في قلب الإسلام ذاته؟

إن التطرف السياسي ظاهرة عالمية متعددة الأشكال والأساليب والأيديولوجيات، وهو التشرنق داخل فكرة أيديولوجية خلاصية وحيدة أصحابها في عالم الممارسة، يعتبرونها الحقيقة المطلقة، وغالبا ما تنشأ في وسط ثقافي محدد.

يمكن القول إن جميع الأيديولوجيات العربية انطوت على فكرة الخلاص من مشكلات الأرض، من الأيديولوجيا الشيوعية وفكرة الاشتراكية، مرورا بالأيديولوجيا القومية وفكرة وحدة الأمة، وانتهاء بالأيديولوجيا الإسلامية وفكرة الحاكمية لله، ناهيك عن الأيديولوجيا الليبرالية وفكرة الديمقراطية وحرية السوق.

ما يميز القومي والشيوعي والليبرالي أن مرجعهم هو العالم الواقعي ذو المصدر الإنساني، عالم متعدد يقر بالاختلاف، تفعل أفكار الخلاص فيه فعلها الإيجابي بوصفها تعبيرا عن اتجاهات اجتماعية واقعية متعددة، فالشيوعي مثلا لا يرقى إليه الشك بانتصار فكرته، ويعول على نضال الطبقة العاملة المتحالفة مع الفلاحين والمثقفين الثوريين، والقومي يؤمن بفكرة الوحدة القومية ويقتنع بقدرة الجماهير الشعبية على تنظيم نفسها لتحقيق هذا الهدف، أما الليبرالي فهو يؤسس لقيام علاقات ديمقراطية تسمح لقوته الاقتصادية بالهيمنة.

المشكلة التي ظهرت في الوطن العربي في العقود الأخيرة هي أن الواقع قد هزم جزءا كبيرا من طموحات الأيديولوجيات الأرضية، ولما كانت الأيديولوجيا الإسلامية ذات المرجع الإلهي أيديولوجيا واعدة باستمرار، واليقين الذي وفرته للمعتنقين بها لا يمكن أن توفره أيديولوجيات انهزمت، فإنها سرعان ما انتصبت كفكرة خلاصية شديدة التأثير، ومما ساعد على حضورها هذا مناخ الثقافة الإسلامية السائدة عربيا.

بما أن الأيديولوجيا مرتبطة بالممارسة، أي السعي لتحقيق منطلقاتها في الواقع، فإن الإسلام وفّر لهذه الأيديولوجيا عُدّة عملية ذات جذر تاريخي غارق في القدم من أهم عناصرها الجهاد، حيث تقوم فكرة الجهاد إسلاميا على نشر الدعوة بالقتال أساسا، وتتحول فكرة الجهاد في الإسلام السياسي إلى ضرورة قيام الدولة الإسلامية بالقوة، ومن غير الصعب على السياسي الإسلامي أن يجد تبريرا لتطرفه السياسي أو الجهادي استنادا إلى النص القرآني، فكما ينطوي النص على آيات التسامح والصبر وتحريم القتل والانفتاح على الآخر المختلف ورفض التقليد والإعلاء من شأن العقل، ينطوي أيضا على آيات تحض على الجهاد والموت في سبيل الله.

إن انتصار الأيديولوجيا الإسلامية العنفية سببه تلك الفكرة التي راحت تشيع في أوساط الكثير من المسلمين الأيديولوجيين بأن عصرنا العربي الراهن هو عصر جاهلية وأن الذي يحول دون انتصار الدولة الإسلامية جمهور الكافرين بدءا ممن هم في هرم السلطة السياسية، مرورا بالعلمانيين والمتغربين والملحدين وانتهاء بالغرب الذي يعتبرونه العدو الأساسي للإسلام، ومن هنا يعتقد بعض السياسيين الإسلاميين المتطرفين أن الجهاد وحده كفيل بالقضاء على هذه الفئات التي حادت عن جادة الصواب، وهذا يحتاج إلى مجاهدين يضحون بالنفس.

لكن مجتمع هؤلاء هو في نهاية المطاف مجتمع إسلامي، ومن الصعب إدراجه في خانة الأعداء ولا في عمليات القتل ولا في التنظيم السري اللاشرعي، ولهذا فإن هذه الحلقات الضيقة سرعان ما تجد نفسها معزولة عن محيطها الإسلامي، وتحوّلها عقيدتها العنفية إلى جماعات قتل، ولأن هذه الجماعات السرية قليلة العدد تواجه دولا خبيرة في القمع، فإنها كلما ازدادت عنفا زادت الأنظمة من سياستها الاقتلاعية لهذه الجماعات، ولقد دللت التجربة التاريخية للجماعات العنفية المغلقة على أن أجلها قصير جدا، ولكنها في استخدام عنفها تُقوّي من سلطة الدولة، على عكس ما تعتقد، فتزيد الدولة خبرة فوق خبرة في قدرتها الأمنية لتطول المجتمع ككل.

ليس باستطاعة التطرف الإسلامي إعادة التاريخ القهقري، لأنه في الأصل متناقض مع منطق التاريخ ذاته، وبالمقابل فإن الكثير من الأنظمة السلطوية في العالم العربي هي الأخرى ضد منطق التاريخ الذي يبرز تناقضها الصارخ مع مستوى تطور الحياة الاجتماعية والسياسية ومع الحاجات العميقة للبشر، وهكذا يصبح الصراع صراعا بين حدين منهزمين تاريخيا، لا يعشقان الحرية ويصادران أغلب أشكال التعبير الحرة. نتيجة سوء فهم أسباب الظاهرة الإسلامية العنفية، ينبري بعض المثقفين لتوحيد الإسلام بوصفه دينا مع العنف والتطرف، لكن لا يمكن فهم التطرف استنادا إلى طبيعة الإسلام، بل إن الشروط الاجتماعية ـ السياسية التي تطبع المنطقة بطابع العجز والقمع والفقر هي التي خلقت أساس التطرف الديني، وعلى الإسلاميين الاقتناع بأن النقيض للخطاب العنفي الإسلامي ليس خطابا نقيضا للإسلام بوصفه دينا وثقافة الملايين من الناس، بل خطاب نقيض لكل أشكال التطرف الواقعة والممكنة، كما على الأنظمة أن تقتنع بأن السلوك العملي في مواجهة العنف السياسي الأصولي يكمن في بديل سياسي ديمقراطي لا في سلوك متطرف مشابه.

كاتب سوري

7