عودة كارل ماركس

الاثنين 2016/03/14

وُلد المسيح وعاش في الشّرق (كنيسة المهد/ بيت لحم) لكنّ رسالته انتشرت وانتصرت أساساً في الغرب (الفاتيكان/ روما)، ما يؤكد بأن حقائق التاريخ والجغرافيا تظل نسبية أمام مآلات الأفكار والمعتقدات. لذلك، كثيرون من راهنوا بأنّ ماركس الذي وُلد وعاش في الغرب سينتصر في الشرق تحديداً. دليلهم على ذلك أنّ الضحايا الأساسيين للنظام الرّأسمالي ليسوا بالضرورة داخل المجتمعات الغربية، والتي حققت نوعاً من الرّخاء وأصبحت، بصرف النظر عن نواقصها، تبدو كأنها “أرض الميعاد” في أعين معظم معذبي الأرض وسائر البؤساء الأشد بؤساً. وبالفعل، فقد كان انتصار الثورات الشيوعية في روسيا والصين وكوريا الشمالية وفيتنام، وصولا إلى اليمن الجنوبي وإثيوبيا وأنغولا وغيرها توحي بأن مستقبل ماركس أصبح مضمونا في الشرق عموما والجنوب أيضا، أي خارج الحضارة الغربية. لكن، بعد انهيار المعسكر الشيوعي وسقوط جدار برلين وصعود السياسات النيوليبرالية اتخذت العبارة شكلاً آخر: ماركس فيلسوف بلا مستقبل.

مرّت ثلاثون عاماً عن الاختفاء القسري لماركس من معظم أدبيات الحراك السياسي العالمي، مرّت ثلاثون عاما عن هيمنة النموذج الاقتصادي النيوليبرالي على العالم برمته بلا منافس يُذكر، حتى ظنّ الكثيرون بأن ماركس قضى نحبه ومضى بلا رجعة. غير أنّ السنوات العجاف التي وضعت الاقتصاد العالمي على حافة الانهيار، كانت كافية لاعتراف الكثيرين بأن الإصرار على استبعاد ماركس بصفة نهائية لم يكن قراراً صائباً.

لا شكّ أنّ لحظة صعود مارغريت تاتشر في انتخابات 1983 البريطانية، وصعود رونالد ريغن في انتخابات 1984 الأميركية، كانت البداية الفعلية لنهاية ما يسمى في أدبيات الاقتصاد السياسي بـ”الثلاثين المجيدة”، وهي السنوات الفاصلة بين 1946 و1975. مثل صعود تاتشر وريغن بداية انهيار دولة الرعاية الاجتماعية وصعود الاقتصاد النيوليبرالي في العالم، وهو الوضع الذي استغرق ثلاثة عقود كاملة، ثلاثون “غير مجيدة” هذه المرّة. خلالها لم يعد للسياسة النيوليبرالية أيّ خصم قادر على منازلتها. وهذا هو السياق الذي جعل فوكوياما يؤلف كتابه الشهير “نهاية التاريخ”.

خلال الثلاثين “غير المجيدة” تلك، عانى اليسار العالمي من فقدان البوصلة، ودخل في ما يُسمّى بطور الانتحار التاريخي طويل الأمد. ثم ساد الاعتقاد بأنّ اليسار لا يستطيع أن يُحقق أي نصر انتخابي إلا إذا لعب في الوسط. وهكذا اختار معظم اليساريين الامتثال للأمر الواقع، ومن ثمة اللعب في وسط الميدان. لعلها نفس الحكاية مرة أخرى، تلك الوسطية منزوعة المواقف. بهذا النحو أصبحت الفروقات بين اليسار واليمين مجرّد فروقات شكلية وصورية.

اليوم، ثمة مؤشرات كثيرة تؤكد بأننا ربما أمام عودة روح اليسار، ضمنها صعود حزب سيريزا في اليونان بقيادة ألكسيس تسيبراس، وصعود بوديموس في أسبانيا بزعامة بوديموس إغليسياس، وصعود اليساري الجذري جيرمي كوربين زعيماً لحزب العمال البريطاني، وصعود المناضل اليساري بييري ساندرس كمنافس قوي لهيلاري كلينتون في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي الأميركي، إلخ. هل هي بداية عودة الرّوح إلى “أطياف ماركس”؟

قبل سنوات مضت كتب الفيلسوف دانيال بنسعيد مقالا يقول عنوانه كل شيء “مع ماركس أو ضدّ ماركس، لكن ليس بدون ماركس”. يقصد بذلك، أننا قد نفكر مع ماركس، وربما نفكر ضدّ ماركس أيضا، وقد نفكر معه وضدّه في نفس الآن، وهذا هو المعنى العميق للتفكير، لكننا في كل الأحوال لا نستطيع أن نفكر دون ماركس. في واقع الحال ثمة معطى مؤكد؛ الفلاسفة لا يموتون، بل يولدون بعد موتهم، وأحياناً يولدون بعد إعلان موتهم، إنهم يولدون باستمرار وعلى الدوام، ثم إنهم يحضرون بقوة وإصرار خلال كل المنعطفات الحرجة، أو على الأصح، يتم استحضارهم على الدوام وفق رؤى وتأويلات متجددة. طبيعي أن يصدق هذا المآل على ماركس أيضاً، بل طبيعي أن يصدق عليه هو بالذات، ولا سيما في اللحظات التي تدخل فيها الرأسمالية طور الأزمة، كما هو حالنا الآن.

عموماً، ثمة نقاط واضحة تنتظر برنامج ورثة ماركس، لا تتعلق هذه المرّة بفرضية تدمير الرأسمالية وتحطيم جهاز الدولة كأداة طبقية، وهي الفرضية التي ورطت المعسكر الشيوعي السابق في برامج عسكرية وحربية وعدوانية مكلفة، وأوقعته في أتون استبداد شمولي مرعب، وإنما الهدف إصلاح الرأسمالية من الداخل وترسيخ دولة الرعاية الاجتماعية واستبدال مفهوم الصراع الطبقي بالرهان على توسيع قاعدة الطبقة المتوسطة، مع ترسيخ الحريات الفردية، واعتبارها ترياقا ضدّ كل الشموليات رأسمالية كانت أو اشتراكية. أي نعم، سيعود ماركس لكنه لن يعود كما ذهب. وهذا معطى حاسم. عموما، يمكن استعراض تلك النقاط التي تنتظر اليساريين الجدد على النحو التالي:

- ضبط جشع أسواق المال، وإلغاء الجنات الضريبية، وتقنين المضاربات المالية، وإعادة ضبط مناطق التجارة الحرة.

- ردّ الاعتبار للفاعل السياسي الذي أمسى واهناً ضعيفاً أمام تغوّل الفاعل المالي.

- دعم قطاع الخدمات الاجتماعية في سياق دعم نسيج التضامن بين الطبقات والمناطق والأجيال.

- إجراء تعديلات على النظام المالي والاقتصادي العالمي وفق معايير أكثر عدالة وإنصافاً.

- أخيرا نضيف، بصرف النظر عن مآل مفاهيم الشيوعية والاشتراكية واللاطبقية، فالمؤكد أن تكريس المساواة الكاملة في الصحة والتعليم والعدالة يعدّ واجبا أخلاقيا وضرورة إنسانية.

مؤكد في الأخير أن الطريق سيكون شاقا وطويلاً، لأنه طريق من دون نماذج جاهزة ناجزة، غير أننا نعلم أيضا بأن الطرق القصيرة والخاضعة لنماذج جاهزة لا تؤدّي في آخر الحساب إلى أيّ شيء.

كاتب مغربي

9