رحلة من البصرة إلى مسقط تترك تاريخا وثائقيا من صور الخليج

بلغت الرحلة الكويت في البداية ثم مجموعة جزر البحرين التي كانت تحت الحماية البريطانية. نقطة التوقف التالية كانت محطة جمرك العقير، ومن هنالك اخترق طريقه برا حتى بلغ الهفوف، التي تضم حامية تركية للسلطنة العثمانية.
حفظ بورخارت مجريات رحلته بالصور التي تعد من أقدم صور بلدان الخليج العربي، ومن خلال محاضرة ألقاها أمام الجمعية الجغرافية في برلين في فبراير عام 1906، غير أن نصه المختصر ـ وفقا للمؤلفين ـ لا يرقى إلى الجودة الفائقة لصوره الفوتوغرافية، التي تظهر حسه الإثنوغرافي، ونظرته البعيدة عن المصلحة الذاتية وتركيز اهتمامه كله على ما يقوم بتصويره.
الصور التي ضمها الكتاب الذي صدرت طبعته الثانية مؤخرا عن هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة، تشكل نماذج من صور الرحلة تشهد على تاريخ البلدان العربية في الخليج وتاريخ الإمارات وعائلاتها الحاكمة وكذلك هي نقاط بارزة في الذاكرة الثقافية العربية، يقول المؤلفان “أفضت رحلة بورخارت إلى الخليج العربي إلى تعريفه بنوع جديد من المشاهد الطبيعية ومناخ مختلف، ولكن تضمن أيضا تراثا تاريخيا غير مألوف له.
الكتاب على الرغم من أنه يوثق لرحلة بورخارت إلا أن مؤلفيه قدما عرضا تاريخيا لمنطقة الخليج العربي حوالي عام 1900 وكذا التصوير الفوتوغرافي في المشرق وقراءة لتجربة بورخارت كمصور رحالة وقوة في التصوير، وعلى امتداد الكتاب يقومان بشرح تفصيلي لما يرد في الصور من أشخاص وأماكن وملابس ومواد مرتبطة بالسفر وعادات وتقاليد وتواريخ وغيرها.
صور بورخارت تشكل نماذج من صور الرحلة وتشهد على تاريخ البلدان العربية في الخليج وتاريخ الإمارات وعائلاتها الحاكمة
تبدأ الرحلة عندما غادر بورخارت البصرة ومعه رفيقه الشامي أبوإبراهيم وقد ركبا متن مركب شراعي لكي يقلهما إلى الكويت وفي الساعة الخامسة بعد الظهر قبيل الغروب بدأت الرحلة عبر شط العرب وانطلق المركب في رحلته صوب الخليج العربي، وكانت أول صورة للمحمرة، في 7 ديسمبر 1903، وهي الصورة الوحيدة طبقا للمؤلفين التي تمثل الساحل الفارسي المطل على الخليج العربي.
ويتوقف المؤلفان عند المركب التي كان يستقلها بورخارت حيث التقط صورة لمقدمتها وأخرى لمؤخرتها، حيث تناولا أسماءها وصناعتها، وقالا “خارج نطاق العالم العربي كانت المراكب الشراعية في الخليج التي حافظت على التجارة عبر البحار على نحو مماثل وصولا إلى ساحل الهند لما يزيد عن أربعة آلاف سنة، كانت هذه المراكب تعرف باسم ‘الداو’، غير أن البحارة العرب لا يطلقون على مراكبهم اسم ‘الداو’ بل يسمونها ‘البغلة، البوم، السنبوك، الشوعي\'”.
بعد وصوله إلى الكويت توجه بورخارت مباشرة لزيارة الشيخ مبارك الصباح شيخ الكويت (توفي عام 1917) وقدم إليه رسالة تعريف من الحاكم العثماني في البصرة، الذي وجهها إلى “باشا الكويت” فأصبح بورخارت ضيفا للشيخ مبارك وقدمت له غرفة في القصر. وقبل رحيله عندما استقبله الشيخ مبارك للمرة الثانية قام بورخارت بالتقاط صورة شخصية له وكتب أن “قاعة الاستقبال كانت مؤثثة على الطريقة الإفرانجية”. وفي الكويت قام بورخارت بتصوير سوق الفحم حيث كان كل من الفحم والماء والتمر يجلب من خليج المدينة على الجمال والحمير ليباع.
وبعد مضي سبعة أيام من الإبحار البطيء وصل بورخارت إلى البحرين حيث أقام لمدة أسبوع في منزل ممثل الحكومة الإنكليزية ثم تم استقباله مع مضيفه من قبل الشيخ عيسى بن علي آل خليفة في قصره، وذكر ذلك بورخارت في افتتاحية مذكراته اليومية بتاريخ 20 ديسمبر “إنه يحب أن يجعلني أصوره، وكذلك ابنه ولي العهد”.
صور بورخارت شيوخ البحرين يتوسطهم الشيخ عيسى ثم صور ولي العهد، والقصر القديم للشيخ عيسى، وبابا خشبيا مزخرفا بنقوش محفورة وأزرار معدنية يرجح المؤلفان أنه من القصر الذي بناه الشيخ عيسى عام 1869 بعيد توليه السلطة، كما صور مسجدا ذا مئذنتين على بعد ساعة من المنامة، وكذا منظر من أحد شوارع المنامة، وأطلال الحصن البرتغالي.
|
ويتوقف بورخارت في العقير؛ محطة جمرك إقليم الحسا “الأحساء” الشهيرة، حيث تقع خلف قلعة تشبه الحصون القبلية العربية، وتبدو في الصورة قافلة تتجه مبتعدة وفي الاتجاه البعيد عدة مراكب تتمايل في المياه الضحلة “وفي العقير انتظر بورخارت وصول قافلة تتألف من حوالي مئتي بعير قادمة من الهفوف، الواحة الغنية بالمياه في الحسا، وقبل أن ينطلق ببضعة دواب ومرافقة صغيرة، قام بتصوير القافلة في باحة مكتب الجمرك. غالبية الجمال كانت قد أنزلت عنها أحمالها، وتم تصنيف الأكياس من قبل أصحابها وتكديسها.
ويرى البدو وعكــامو القــــافلة متجمعين حول شخص يقوم باحتساب رسوم بضائع الشحنة، وثمة جندي تركي يراقب مجريات الأمور”.
ويلتقط بورخارت العديد من الصور للهفوف، منها صورة لمنطقة النعاثل، والسور الدائري لمنطقة الكوت، ومنطقة الرفعة بمحاذاة منطقة الكوت، ومشهد عام لسوق الهفوف، ورياض النخيل الفسيحة التي تحيط بها، وصورة للفرقة الموسيقية العسكرية التركية بالهفوف في مدخل قصر الحكومة، حيث كانت الهفوف مركز الإدارة والحكومة لمنطقة الإحساء ومركز الباشا التركي.
وينطلق بورخارت من الهفوف إلى قطر، وفي الطريق يصور لنا قرية القارة وجماليات التشكيلات الحجرية، توقفه لسقاية الجمال ثم لصلاة مرافقيه أو شرب القهوة، ثم التخييم عند دخول الليل، كما التقط صورا لخيام البدو الرحل والقاعدة العسكرية التركية في قطر.
وأوضح بورخارت أنه خلال الرحلة كان الرجال من جميع الطبقات الاجتماعية يعيشون سويا بشكل متقارب سواء على الطريق أو في مخيم المبيت أو عند تناول الطعام أو شرب القهوة، إن الحواجز الاجتماعية السارية في أوروبا لا يجري تطبيقها خلال السفر في العالم العربي.
وقال المؤلفان “بعد مسيرة تسعة أيام قادته عبر منطقة ذات التفافات حصوية ورملية، بلغ بورخارت الدوحة، وهي موقع آخر حامية تركية. وقد توجه رأسا إلى الثكنة وقدم نفسه إلى البينباشي، أي المقدم الذي استقبله بحفاوة. ولما لم يجد مركب بوم ليتابع رحلته، فقد تعين عليه المكوث لمدة ستة أيام قام خلالها بالتقاط بعض الصور رغم أن “المدينة ذاتها ليس فيها شيء يسترعي التصوير” كما كتب في مذكراته.
وأضافا “أن صورها تعكس بشكل كبير حالة المحتلين الترك، فخلال الفترة الممتدة بين 1872 و1916 كانت السلطنة العثمانية تعلن سيطرتها على شبه جزيرة قطر. والقاعدة العسكرية التي تقع على بعد 400 متر إلى الغرب من البلدة العربية تعطي انطباعا موحشا”.
|
وتكشف صورة القاعدة أن الحصن التركي بني بعيد عام 1872 إلى جانب حصن قبلي عربي سابق “وعندما رغب العثمانيون لاحقا في فتح خليج جمركي في الدوحة، فشلوا في ذلك بسبب ممانعة شيخ قطر جاسم آل ثاني. وفي أيام بورخارت كان الشيخ جاسم يعيش في البر الداخلي ويقر جميع أبناء قطر بزعامته عليهم. وقد سمع بورخارت أخباره لكنه لم يقم بزيارته حيث أن الشيخ جاسم يقيم على بعد خمس ساعات إلى الغرب من الدوحة”.
وفي الدوحة كان بورخارت قد طلب من الشيخ أحمد بن محمد بن ثاني أخي الشيخ جاسم رسالة تعريف إلى شيخ أبوظبي الشيخ زايد بن خليفة آل نهيان، وما إن وصل إلى أبوظبي ظهر يوم 4 فبراير 1904 حتى قام بالتوجه عبر السوق إلى الشيخ زايد ليقدم له رسالة التعريف من الشيخ أحمد بن محمد بن ثاني نائب حاكم قطر، فتم اصطحابه إلى حصن خارج المدينة حيث كان المجلس معقودا في ذلك اليوم، وبعد أن انتظر بورخارت بعض الوقت ظهر الشيخ زايد ويصفه بورخارت “تبدو على الرجل هيبة الحكم وسيماء العظمة والوقار وله حاشية كبيرة وأتباع″.
قام بورخارت بتصوير أحد المجالس اليومية دون أن يكثر من الصور، وكتب يقول “يحصل الشيخ زايد على موارده المالية تقريبا من عوائد الغوص على اللؤلؤ. وهو رجل كريم مضياف إلى أقصى حد، وسنة بعد الأخرى يحل عليه الكثير من الضيوف”.
كما صور مسكنه الخاص في أبوظبي حيث خصص له الشيخ زايد مبنى فخما خلال مدة زيارته وأمر بتزويده بالأرز ولحم الضأن والزبيب والتمر. والتقط صور الأكواخ السكنية التي كانت تتوزع متقاربة بعضها من بعض بحيث تشكل باحة محمية من الخارج بسور، وصور المراكب والجمال في خليج أبوظبي، وصور الخيول الخاصة بالشيخ زايد، والفرس الذي أهداه شريف مكة للشيخ زايد. وكتب بورخارت في مذكراته بتاريخ 7 فبراير 1904 “في عصر هذا اليوم قمت بتصوير الشيخ زايد في المجلس وكذلك قمت بتصوير أجمل فرس لديه”.
ولم يسمح لبورخارت أن يصور في دبي التي وصلها في 11 فبراير على الرغم من أنه نال جميع حقوق الضيافة واحتياجات إقامته، وذلك بعد تقديمه رسالة التعريف التي قام بكتابتها له الشيخ زايد بن خليفة حاكم أبوظبي.
ومن الإمارات إلى عمان حيث صور بورخارت الكثير من الصور لمسقط من الداخل والخارج، فهناك مسقط من خلال منظر عام لقصر الإمام من الخور وعائلة من صيادي السمك في خور سيفة الحجاج، ومنظر عام لخور سيفة الحجاج (خور مالكوم) ثم منظر عام لمسقط من البحر ثم منظر عام لها من ظاهر سورها وآخر للمدينة وسورها من البر، ومنظر لقصر الإمام ، سلطان مسقط وزنجبار، من جهة البر.