ليلى زانا أيقونة كردية تحولت إلى هاجس في جبل قنديل

أوستند (بلجيكا)- تفجّرت العلاقات التركية الكردية بعد أن كانت قد وصلت مراحل متقدمة من أجل “السلام”. وعادت الحرب من جديد ما بين أنقرة وحزب العمال الكردستاني، سواء في شمال العراق أو جنوب تركيا أو شمال سوريا.
مسيرة الحرب والسلام المتبادلة كان لها وجوهها. وكان من بين تلك الوجوه أوّل امرأة كرديّة دخلت البرلمان التركي منذ تأسيس الجمهوريّة عام 1923، وهزّت البرلمان بداية التسعينات، حين كان يقوده العلمانيون ـ الأتاتوركيون. وفي العام 2015، عاودت الكرّة من جديد، من داخل البرلمان ذاته حين صار يقوده الإسلاميون. إنها الناشطة والسجينة السياسية السابقة والبرلمانية الكردية ـ التركيّة عن حزب الشعوب الديمقراطي ليلى زانا.
طفولة مريرة وبائسة
ولدت زانا في ربيع العام 1961 في مدينة فارقين التابعة لمحافظة آمد ـ دياربكر (كبرى المدن الكرديّة في كردستان تركيا). زوجها مهدي زانا كان عمدة لدياربكر. أودع السجن مرّتين. الأولى كانت عقب الانقلاب العسكري، وقبل أن يقترن بليلى. والثانية بعد الانقلاب العسكري الذي شهدته تركيا في أوائل الثمانينات بقيادة قائد الجيش وقتذاك الجنرال كنعان إيفرين.
تحدّثت زانا عن حياتها الأولى إلى الصحافي الفرنسي كريس كوتشيرا في حوار أجراه معها، ونشرت ترجمته الإنكليزيَّة في مجلَّة “كردستان” التي كان يصدرها المعهد الكردي في باريس، قالت “والدي كان عاملاً بسيطاً لتوزيع الماء. لديه ستة أطفال، خمس بنات وولد. رجل محافظ وتقليدي، أرغمني على ترك الدراسة في المرحلة الابتدائيّة، وأنا في السنة الخامسة. عندما بلغت الرابعة عشرة، قررَ تزويجي من ابن خالي، مهدي، الذي كان في الخامسة والثلاثين. ما كنت رأيته سابقاً. حيث ألقي القبض عليه سنة 1973، على خلفيَّة نشاطه في الحزب الشيوعي. وبعد إطلاق سراحه بثلاثة أعوام، تقدَّمت والدة مهدي لخطبتي. لم أكن أحبذ هذا الزواج. لم يكن لي رأي في اختيار شريك حياتي. كنت أعرف أن حياتي ستكون صعبة جداً، نتيجة فارق السنّ بيننا. الرجال يسيئون معاملة النساء في كل أرجاء العالم. والحال أسوأ عند الكرد. فعلى سبيل المثال، والدي كان ينام حتى العصر، وعندما يستيقظ، يتناول إفطاره، ثم يذهب ليقضي بقيَّة الوقت مع أصدقائه وأصحابه. بينما كانت والدتي، تقضي ساعات النهار في العمل، ورعي الماشية والاعتناء بها. ناهيك عن الاهتمام بشؤون المنزل، وتربية الأطفال. ورغم ذلك، تتعرَّض للضرب من قبل والدي. كان يعتقد أن عليها تنفيذ طلباته كعبدة. وإذا استيقظت إحدى البنات وبكت في الليل، وأزعجته، فإنّ والدتي، وبناتها، كنَّ يطردن خارجاً. ويبقين في الخارج أيَّاً تكن الظروف، في البرد أو الحرّ. حتَّى إذ ما اطمأنَّت لنومه، حينها تتسلَّل وأخواتي إلى البيت”. وصفت زانا حياة الأكراد في جنوب تركيا، يومياتهم وتفاصيلها، مقاومتها وانتصارها على تلك الصعوبات لتكون أوّل امرأة كرديّة تحصل على الشهادة الثانويّة من دون ارتياد المدرسة.
فتاة مقاتلة
|
أولى إرهاصات تعرّفها على السياسة، كانت أمام سجن دياربكر الرهيب أثناء زيارتها لزوجها المعتقل فيه، تقول زانا “لم يسمحوا لي برؤية مهدي مدة ستة أشهر. كانوا يعذبونه ويضربونه. كنت أذهب لزيارته كل أسبوع، فيقولون: الزّيارات ممنوعة. مذّاك، استهوتني مطالعة الكتب. الكتاب الأول الذي قرأته كان عنوانه (فتاة مقاتلة). حينئذ، لم أكن أجيد التحدّث بالتركيَّة بطلاقة، ولا أفهم معاني كل الكلمات. الكتاب التالي، كان بعنوان (الحجارة الحمراء) عن الحزب الشّيوعي الصّيني، والمجابهة بين الشّيوعيين والفاشست الذين ألقوا جثث عدد من المناضلين في حفرة. وكنتُ أقارن بين تلك الأحداث وما نعاني منه نحن الكرد”. تضيف زانا “ومع انطلاق حزب العمال الكردستاني الكفاح المسلَّح، بدأتُ النشاط السّياسي، فشاركت في العديد من التظاهرات، واعتصمت أمام السّجن. كان شعوري صعباً ومرعباً للغاية. تغيرت كثيراً، أصبحت لديّ شخصيتي الخاصّة. منذ العام 1984، استطعت أن أقول أنا هنا. أنا موجودة. وتطوَّرت الحال، إلى أن تحوَّلت إلى مشكلة بيني وبين زوجي. (لأنّ ليلى، كانت منسجمة مع أفكار عبدالله أوجلان وحزبه، بينما كان مهدي زانا بارزانيّ الهوى والميل). مهدي كان يفضّل أن أمارس السّياسة، وأعمل لمصلحته. لم يكن يستسيغ أن أعمل لنفسي”.
ثياب السياسيين
في بداية التسعينات، أسست زانا مع مجموعة من الساسة الكرد، أول حزب علني في تركيا باسم “حزب العمل الشعبي”. تحالف هذا الحزب مع “الحزب الديمقراطي الاجتماعي” بزعامة أردال إينونو (نجل عصمت إينونو، رئيس جمهوريّة سابق وصديق أتاتورك)، ودخل الحزبان الانتخابات البرلمانية التي شهدتها تركيا سنة 1991. ونجح الحزب الكردي في إيصال 17 عضوا للبرلمان من بينهم زانا.
في جلسة أداء القسم، حال اعتلاء زانا المنصّة، انفجر الغضب التركي في البرلمان، لأنها كانت تضع ألوان العلم الكردي على رأسها. ولكنها لم تتراجع وترضخ لصرخات البرلمانيين الأتراك، بل اختتمت القسم باللغة الكردية قائلةً “أدّيت هذا القسم من أجل الشعبين الكردي والتركي”.
انفك التحالف بين الحزبين المذكورين. وأصدرت المحكمة الدستوريّة العليا في تركيا قرارها بحظر حزب العمل الشعبي. وبعد هذا القرار، حكم القضاة الأتراك بسجن زانا ورفاقها البرلمانيين السبعة عشر لمدّة 15 سنة بتهمة “الانتساب لحزب العمال الكردستاني”. وأودعت زانا والنواب خطيب دجلة، أورهان دوغان، سليم ساداك وسرّي صاكك السجن. بينما هرب بقيّة النوَّاب الأكراد إلى خارج تركيا.
بقيت ليلى 10 أعوام في السّجن. وبسبب ضغوط منظمات حقوق الإنسان التركيّة والدوليّة، قرّرت السلطات الإفراج عنها سنة 1997، لأسباب صحيّة. إلاّ أنها رفضت ذلك. وطالبت بأن يفرج عن جميع زملائها أيضاً. وبعد أربعة أعوام، دعا البرلمان الأوروبي السلطات التركيّة إلى الإفراج الفوري عن زانا.
حين قارب حُكمها على الانتهاء، أفرج عنها وعن رفاقها تقرُّباً من الاتحاد الأوروبي. سنة 1995، منح البرلمان الأوروبي زانا جائزة “ساخاروف” الأوروبيّة للسلام، واستلمتها بعد الإفراج عنها، بعد إلقاء كلمة أمام البرلمان الأوروبي.
لم تترك المحاكم التركيَّة زانا تهنأ باستعادتها حريّتها، إذ أصدرت بحقِّها عقوبة جديدة بالسَّجن عشر سنوات أخرى، بالتهم نفسها تقريباً، وهي “الدعاية والترويج للعمال الكردستاني في خطاباتها الجماهيريَّة”. كذلك حكمت عليها بالسجن سنتين لاحقاً، بسبب قولها “للكرد ثلاثة زعماء: البارزاني، الطالباني وأوجلان”.
كل الأزمات التي تشهدها العلاقة بين "العمال الكردستاني" و"الديمقراطي الكردستاني" العراقي، تلعب زانا فيها دور موفد أوجلان إلى رئيس إقليم كردستان العراق مسعود البارزاني. وفي مناسبات عدة، ذكرت زانا بأنها حملت رسائل من أوجلان إلى البارزاني والطالباني
الكثير من المراقبين، فسَّروا وقتذاك قرار المحاكم التركيَّة بأنه ناجم عن خشية حكومة حزب العدالة والتنمية من عودة زانا الى واجهة العمل السّياسي، وهي ذات الشَّهرة والصِّيت الكرديّ والتركي والعالمي والمرشّحة لجائزة نوبل أيضاً. قرار تركيا، شجبه 48 عضواً في البرلمان الأوروبي، في رسالة وجهوها لأردوغان. وعليه، لم تجد السلطات التركيَّة بدَّاً من عرقلة عودة زانا للحراك السِّياسي الكردي بإصدار ذلك الحكم، ثمّ تخفيفه إلى الغرامة الماليَّة، ومنعها من مزاولة العمل السياسي لخمسة أعوام أخرى، في مسعى إرضاء الجانب الأوروبي.
بعد ذلك حظرت المحكمة الدستوريّة التركيّة حزب المجتمع الديمقراطي الذي تنتمي إليه زانا. وبموجب القرار تم حرمانها من مزاولة العمل السياسي لمدة 5 سنوات.
وبعد انقضاء مدّة الحرمان من الحقوق السياسيّة، عادت زانا إلى البرلمان التركي في الانتخابات التي شهدتها تركيا العام الماضي، عن حزب الشعوب الديمقراطي، وحافظت على مقعدها عن مدينة آمد ـ دياربكر. وفي الانتخابات التركيّة المبكّرة، فازت زانا، ولكن هذه المرّة ليس عن مدينة دياربكر بل عن مدينة إيغدر الكرديّة، جنوب شرق تركيا، وضمن قائمة حزب الشعوب الديمقراطي. وفي جلسة القسم، كررت ما قامت به سنة 1991، حيث رددت القسم باللغة الكرديّة، مع تغيير في بعض مفرداته. ورفض البرلمان قسمها، وحرمها من راتبها الشهري ومن الحصانة الدبلوماسيّة.
ظلال أوجلان
يذكر أوجلان في بعض تصريحاته أنه أثناء التفاوض الأوّل بينه وبين الدولة التركيّة إبان رئاسة تورغوت أوزال، مطلع العام 1993، كان يتحدّث هاتفيّاً مع زانا، وقامت الأخيرة بزيارة دمشق واللقاء بأوجلان في ربيع العام ذاته. وبعد دخوله السجن ، وخروج زانا منه، وبدء العمليّة التفاوضيّة بين أوجلان وأنقرة، كان واضحاً دور الوسيط الذي تلعبه زانا بين زعيم الكردستاني والحكومة التركيّة. ذلك أنها التقت أردوغان في يوليو من العام 2012، وأطلقت تصريحات إيجابيّة مفادها أن “رئيس الوزراء يريد إيجاد حلّ سياسي للقضيّة الكرديّة”. هذا التصريح، انتقدته قيادة الكردستاني في جبال قنديل. بينما رأى مراقبون أن هذا اللقاء والتصريح الذي أطلقته زانا، ما كان إلاّ بالتنسيق مع أوجلان.
في كل الأزمات التي كانت تشهدها العلاقة بين “العمال الكردستاني” و”الديمقراطي الكردستاني” العراقي، كانت زانا تلعب دور موفد أوجلان إلى رئيس إقليم كردستان العراق مسعود البارزاني. وفي مناسبات عدّة، ذكرت زانا بأنها تحمل رسائل من أوجلان إلى البارزاني والطالباني.
يعتبر مراقبون ليلى زانا من جناح الحمائم الموالي للعمال الكردستاني، وأنها أقرب إلى أوجلان منه إلى قيادة الحزب في جبال قنديل. لذا فإن الأخيرة، ليست راضية عن أداء زانا. وترى قيادة قنديل أن ليلى تتجاوز حدودها عبر إطلاق تصريحات تطالب بوقف العنف. وأن الكردستاني من صنع زانا، ولا يقبل النصح منها، وهو القادر على تهميشها وتصفيتها سياسيّاً.
قلق العسكر
|
الحقّ أنه بعد أن أصبحت زانا شخصية دولية، ومعروفة لدى الأوساط الأوروبية والأميركية، ولها علاقات جيدة مع الطالباني والبارزاني وأوجلان، وأن الأخير يستشيرها ويكلّفها بمهام بمعزل عن قنديل، فكل ذلك، جعل قيادة الكردستاني تنظر بعين القلق إليها، ولكنه غير قادر على إقصائها من الحياة السياسية، تحت ضغط الشارع الكردي في تركيا، ودعم أوجلان لها.
لكن قيادة الحزب، عزلت زانا من وفد البرلمانيين عن حزب الشعوب الديمقراطي الذي يقوم بزيارات دوريّة لجبال قنديل وسجن جزيرة إيمرالي، ويلتقي بالسلطات التركيّة في إطار المفاوضات التي كانت تجري بين الكردستاني وأنقرة، بحيث تم استبدال زانا بالبرلمانية الكردية بروين بولدضان.
في الأزمة الأخيرة التي تشهدها تركيا، وتفاقم الحرب بين الكردستاني وأنقرة، وحصار الحكومة التركيّة للمدن الكرديّة وقصفها لهذه المدن بالمدافع والطيران وسقوط العشرات من المدنيين الكرد بالنيران التركيّة، وبهدف تهدئة الأوضاع والعودة إلى طاولة المفاوضات، طلبت زانا لقاء أردوغان. إلاّ أنه اشترط إعادتها أداء القسم في البرلمان. لكنها رفضت الرضوخ لهذا الشرط.
ليلى زانا وعمدة دياربكر السابق، عثمان بايدمير، هما من ضمن الشخصيّات السياسيّة المدنيّة غير المرضي عنها من قبل قيادة العمال الكردستاني. إلاّ أن هذه القيادة لا يمكنها اتخاذ أيّ إجراء عقابي، سياسي، بحقهما، نتيجة الشعبية الكبيرة التي يحظيان بها. وبالتالي، لذلك فإن زانا تعيش الآن تحت وطأة ضغطين، الأوّل؛ خفي وغير معلن، مصدره قيادة العمال الكردستاني. والثاني؛ واضح ومعلن، ومصدره حكومة حزب العدالة والتنمية.
ليلى زانا، وأيّاً تكن درجة الاختلاف السياسي والفكري معها، إلاّ أنها تبقى محطّ إجماع الكرد في كل مكان، على أنها أيقونة وعلامة سياسيّة فارقة في تاريخ حركة تحرر المرأة في الشرق الأوسط، ورمز نسائي نضالي هام في الحركة التحرريّة السياسيّة الكرديّة السلميّة.