بلد صغير داخل ميليشيا كبيرة
أدرك السياسيون في لبنان أنهم بصدد دفع الثمن. هذا الثمن نتاج لمجاراتهم سياسة إيران في لبنان عبر اقتصار معارضتهم لحزب الله على الخطب الشفوية واعتبار أن ما يحدث في بلدهم شيء عادي يندرج ضمن تجاذبات السياسة، من دون أن تكون لديهم القدرة على تقديم أي ورقة تصلح لأن تكون مشروعا وطنيا.
ليست مشكلة لبنان أن ميليشيا مسلحة اختطفت مؤسساته ومجتمعه وقراره الرسمي. المشكلة الحقيقية أن لبنان صار بلدا صغيرا يعيش داخل ميليشيا كبيرة اسمها حزب الله. يتمثل انعكاس الأزمة التي يمر بها لبنان اليوم مع السعودية ومن ورائها دول الخليج الأخرى في ظاهرة الدول الصغيرة التي باتت تريد لعب دور إقليمي معاكس للإرادة العربية العامة من دون أن تكون لديها مقومات تحقيق ذلك.
كان لبنان الدولة الوحيدة التي انصاعت لإرادة دولة غير عربية وهي إيران لمعارضة موقف عربي موحد ضد اقتحام مقر السفارة السعودية في طهران وقنصليتها في مدينة مشهد. كرر لبنان نفس الخطأ الذي وقعت فيه قطر عندما عارضت موقفا عربيا موحدا لمساندة الضربات الجوية المصرية على مواقع تنظيم داعش في ليبيا بعد ذبح 21 قبطيا مصريا على أيدي عناصر التنظيم قرب مدينة سرت العام الماضي. كانت قطر تنسق حينئذ مع دولة غير عربية أخرى معادية لمصر وهي تركيا. عادت بعدها قطر لتعارض الموقف العربي المندد بقصف الطائرات التركية لمواقع الأكراد في بلد عربي هو العراق.
تختلف الدوافع والمقومات بين الدولتين الصغيرتين. قطر لديها من الثروات ما يحصنها من تأثيرات ردود الفعل العربية، كما أنها دولة ذات سيادة تحاول لعب دور إقليمي يفوق إمكانياتها التي تقتصر على الثروات المالية فقط. يختلف الأمر كثيرا في لبنان. منذ تولي رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري السلطة للمرة الأولى عام 1992 يعتمد اقتصاد لبنان بشكل شبه كلي على السياحة والاستثمارات والمساعدات المالية السعودية.
كان الحريري الأب بشكل أو بآخر عقبة أمام رغبة إيران في نقل حزب الله من مجرد شريك معطل لكل المشاريع السياسية والتنموية التي كان يريد الحريري لها أن تغير وجه البلد، إلى قوة عسكرية مهيمنة عليه. أراد الحريري أن تكون رؤيته دافعا إلى تحول لبنان من بلد مازال يعاني من توابع الحرب الأهلية التي قضت على كل شيء جميل فيه، إلى نموذج للتعايش.
نجحت إيران بعد اغتيال الحريري في تأهيل حزب الله كي يكون قادرا على ملء الفراغ الذي تركه انسحاب الجيش السوري من لبنان عام 2005 بعد أربعة أشهر فقط من مقتله.
تعززت سلطات حزب الله لاحقا بعد انتهاء حرب تموز 2006 مع إسرائيل وخروجه منها كما كان سابقا بنفس الهيكلية ونفس الخطب ونفس درجة الالتصاق بإيران، لكن بشعبية وقوة ونفوذ أكبر.
وخسر حزب اللّه الحرب الميدانية وكسب الحرب الإعلامية والنفسية. أما لبنان فقد خسر كل شيء. كان الاتفاق الذي وقعته القوى الغربية مع إيران حول ملفها النووي العام الماضي بمثابة التفاحة التي وقعت في حجر حزب الله من دون أن يدري.
اعتقد البعض أن هذا الاتفاق قادر على تمكين الغرب من وضع نهاية لأجندة إيران التوسعية عبر نشر الانقسامات المذهبية والطائفية في المنطقة. كان حدوث ذلك ممكنا إن كان الغرب نفسه يريد حدوثه. لكن السعوديين أدركوا أن لإدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما ترتيبات أخرى في المنطقة.
لأول مرة تقف السعودية في حيرة من أمرها أمام لبنان من دون أن تعرف كيف تتصرف. فمن جهة تدرك أن أموالها تحولت إلى وقود لحملات طائفية موجهة ضدها، ومن جهة أخرى تخشى أن تأتي سياساتها تجاه لبنان بنتيجة عكسية.
تدرك الرياض أن قرار وقف مساعداتها التي تقدر بـ4 مليارات دولار للجيش وقوى الأمن في لبنان فخ قد يكمل تسليم البلد برمته إلى إيران، إن لم تدار الأزمة باتزان حريص.
لم تضيع إيران الوقت وأعلنت الثلاثاء استعدادها لتعويض المساعدات السعودية، إذ باتت تتصرف في مئة مليار دولار زائدة بعد رفع العقوبات الاقتصادية عنها مطلع العام.
ربما تكون عودة سعد الحريري زعيم تيار المستقبل إلى بيروت جزءا من خطة سعودية تقوم على حمل السياسيين اللبنانيين المؤيدين لها على التحول من مجرد الكلام الذي لم يعد مقبولا إلى الفعل.
لكن المعضلة الكبرى تكمن في غياب أي قدرة لهؤلاء السياسيين على فعل أي شيء. بات واضحا أن لبنان يحتاج إلى معالجة أكبر تتخطى طاولة الحوار التي لم يعد حزب الله مهتما بالجلوس إليها.
يحتاج لبنان إلى حل إقليمي. لن يكون هذا الحل ممكنا في ظل بقاء الرئيس السوري بشار الأسد في السلطة. تدرك السعودية ذلك، وتدرك أيضا أن عليها تحطيم أي سقف زجاجي تضعه الولايات المتحدة لمطالبها في سوريا.
لن يتراجع نفوذ إيران في لبنان بمجرد عودة الحريري إلى بيروت أو عبر إجبار حزب الله على الحوار. سينصلح حال هذا البلد الصغير تلقائيا عندما يتخلص من تناقضاته، ويتغير النظام في دمشق، وتعود إيران إلى حدودها، ويعود هو إلى مكانه الطبيعي بين العرب.
كاتب مصري