كأنما الحياة ميتات
نولد مرّة واحدة لكنّنا نموت آلاف المرّات.. بل لعل الميتات المتتاليات هي التي تجعل الحياة ممكنة.
وعلى حد قول قس بن ساعدة، ذلك الحكيم الجاهلي القديم “من عاش مات ومن مات فات وكل ما هو آت آت…”، كأنما الحياة قطار يتحرّك بسرعة ثابتة نحو المجهول لكنه يسير في اتجاه واحد، وهذا الاتجاه ليس شيئا آخر غير المستقبل.
كأننا جالسون في هذا القطار ننظر من النافذة إلى الخارج فتتراءى لنا الصور والأشياء في حالة انسياب، يتراءى لنا الوجود نفسه في حالة انسياب، بل نشاهد انسياب أنفسنا بالذات.. ولأنّ الزّمن لا يعود إلى الوراء، ولأنّ عقارب الساعة لا تسير إلى الخلف، فإن كل محطة جديدة، كل لحظة مفصلية من لحظات العمر تعني أننا نموت في عالم معيّن ونبعث في عالم آخر.
شخصيا أفكر في الأمر بهذا النحو: رغم الحنين الحارق لا أستطيع العودة إلى حياة الطفولة كما عشتها، لا أستطيع العودة إليها ليس لأنها لم تعد موجودة، ذلك أن إمكانية إدراك عوالم الماضي متوفرة من وجهة نظر الفيزياء النظرية اليوم، لكن المؤكد أني بالنسبة إلى حياة الطفولة أصبحت اليوم طفلا ميتا.
كما أني لم أعد قادرا على التصرف كما كنت أتصرف عندما كنت طالبا جامعيا مهما حاولت – وقد حاولت في بعض المرات- فبالنسبة إلى الحياة الطلابية أنا الآن طالب ميت.
لا أستطيع العودة ولو خطوة واحدة إلى الوراء، لأني في كل لحظة أموت في عالم وأبعث في عالم جديد. هكذا تكون الحياة سيرورة من الميتات المتتاليات: انتقال، فراق، هجر، هجرة، تخرّج، استقالة، طلاق، فقد، تقاعد، إلخ.
بمعنى أن علينا أن نتقبل هذه الأحداث كميتات ضرورية لأجل استمرار الحياة. مجمل القول، نحن في قطار سائر بنا نحو المجهول لكننا أمام خيارين: إما أن نجلس على المقاعد التي تنظر إلى الخلف، فنكون في حالة حداد وبكاء دائم على الماضي؛ وإما أن نجلس على المقاعد التي تنظر إلى الأمام، فنرى انسياب الحياة بمتعة وبهجة واحتفال، ونعتبر ذلك الانسياب شرطا ضروريا لاستمرار الحياة، ونرى كل فقد أو هجر لأي سبب كان، بمثابة انفتاح واستشراف لأفق جديد، وليس انسدادا، وبمثابة فرصة لاستجلاء ممكنات مختلفة، وليس ضياعا.
هل يمكننا أن نتصور وجودا سعيدا بلا صيرورة؟ ألا يعني الثبات جحيم الملل؟ وهل بوسعنا أن نتصور صيرورة بلا ميتات، بلا لحظات للفقد والفراق والانفصال والغياب؟ أليست لحظات الحب الأكثر قوة والأكثر جاذبية في مجمل القصص والأفلام هي لحظات العشق الأخيرة، قبل السفر إلى المجهول، قبل الانصراف لظروف قاهرة، قبل غرق السفينة، قبل الذهاب إلى جبهة الحرب، قبل رحلة اللاعودة، إلخ.
هذا بالضبط ما قد نسميه بشعرية الوجود العرضي. وهذا ما يجب أن نتصالح معه باعتباره بابا من أبواب فن الحياة.