لماذا نصرخ؟
واضح أننا نصرخ عندما نتألم. لكن، هل بوسع الصراخ أن يخفف عنا مرارة الألم ولو قليلاً؟ الإجابة التي يدركها الجميع، لا وألف لا. فلماذا نصرّ على الصراخ أثناء الشعور بالألم؟ العودة إلى الطفولة قد تقدم بعض الإضاءة. نعلم أنّ الطفل يُمارس الصراخ كفعل احتجاجيّ على حرمانه من اللعب أو الأكل أو مشاهدة الرّسوم. لعل الصراخ لغة الاحتجاج الوحيدة التي يعرفها الطفل. والطفل عندما يصرخ أثناء شعوره بالألم، فليس الألم هو سبب الصراخ؛ إذ لا وجود لأي سببية طبيعية أو حتمية بيولوجية تقود من الألم إلى الصراخ. وإنما سبب الصراخ -كما لاحظ ألبير كامي في كتاب “الإنسان المتمرد”- هو شعور الطفل بأن الألم الذي ألمّ به غير مبرر.
بهذا المعنى يكون صراخ الألم صراخا احتجاجيا كذلك. طبعاً هناك سؤال وجودي عالق: الاحتجاج على من؟ أفلا يبدو الأمر مجرّد صيحة في البرية؟ لعل الصراخ المنطلق من حنجرة الإنسان المتألم هو احتجاج الكائن المتروك لألمه (على منوال صرخة المسيح المعلق فوق الصليب: إلهي إلهي لم تركتني؟). صراخ الألم ليس فعلا طبيعيا لكنه رد فعل ثقافي يمارسه الإنسان عن قصد، حتى وإن كان هذا القصد ينفلت منه عندما تشتدّ وطأة الألم. ههنا وجه عميق لصرخة الألم: السماء متعالية بعيدة عنا وقد لا تستجيب في الحال، غير أننا نصرخ لكي نزعج الآخرين، لكي نقض مضاجعهم، حتى لا يتركوننا وحيدين. إنّ أسوأ ما يخشاه الإنسان المتألم أن يُترك وحيداً بين مخالب أوجاعه. وفي كل الأحوال فإن الإنسان هو موضوع الاستصراخ. هنا تكمن الخلفية الإنسانية والعقلانية لمفاهيم الرّحمة والمغفرة والشّفقة والتكافل الإنساني، بصرف النظر عن الغلاف الديني الذي قد تتخذه هذه المفاهيم.
لكننا لا نصرخ بسبب الألم فقط، إذ نصرخ أيضا بسبب الغضب. هنا يختلف الأمر. وهنا يكون الصراخ فعلا غريزيا يلتقي فيه الإنسان مع سائر الفصائل الحيوانية الأخرى. نصعد إلى المنصة ونرفع صوت الغضب لكي نهدد ونتوعد وندفع الآخر إلى التراجع، تماما كما تفعل الدببة والذئاب حين تصرخ. المخجل أن صراخ الغضب هو الأكثر شيوعا عندنا، لا سيما بعد أن طغت النّفس الغضبية على أجوائنا. فأمسى كلامنا في البيت صراخا، وحديثنا في الشارع صراخا، وتعليمنا في المدرسة صراخا، وخطبنا في المساجد صراخا، وأدعيتنا في الصلوات صراخا، حتى في البرلمان الذي هو مكان تشريع القوانين تسمع الصراخ، بل في البرامج الحوارية التلفزية أيضا لا تسمع غير الصراخ الذي أصبح بمثابة ثقافة شائعة تمجد الاعتقاد بأن الحق يعلو بالغضب والصراخ، والعدل يأتي بالغضب والصراخ، والإنصاف يتحقق بالغضب والصراخ، وأن الإيمان يقتضي الغضب لله. والمحصلة غير المعلنة لهذه المعادلة الأخيرة هي الاعتقاد بأن منسوب الإيمان لا يرتفع إلا بارتفاع منسوب الغضب. في الواقع، حين نطلق العنان لحناجرنا ونصرخ من شدّة الغضب فإننا لا نريد أن نسمع سوى صوت واحد هو صوتنا.
صراخ الألم يثير فينا عواطف الرّحمة والسمو الإنساني، غير أن صراخ الغضب لا يثير فينا سوى غرائز الهمجية والتوحش.