وداعاً.. السيادة العربية القطرية

الأربعاء 2015/12/16

تشهد دول العالم تغيّراً ملحوظا في مفهوم السيادة، وقد بدأ منذ سنوات وارتبط بالأساس بتطوّر منظومة حقوق الإنسان، لكن مع ذلك ظل متأثرا بالتراث السياسي الغربي الأوروبي والأميركي على وجه التحديد، غير أنه لم يصل إلى درجة التدخل المباشر كما هو جارٍ في بعض الدول العربية اليوم، حيث تدور الحرب لسنوات، كاشفة عن نهاية حقبة عربية، كانت جامعة ولو بالحد الأدنى للعرب على المستوى الرسمي، على ما فيها من مفاسد، ومُعْلِنة عن بداية عصر جديد مُخْتلف عن المسار الذي تنْشُده الدول الكبرى لنفسها، أو تلك التي تؤسس لسياسة المحاور في المنطقة، وهي بالطبع مرحلة ستكون أبشع من حقبة الاستعمار، وأكثر خطرا من عهود التقسيم للمنطقة العربية.

لوعُدْنا إلى الوراء قليلا سندرك أن الخلافات القطرية الراهنة بدأت مع استقلال الدول العربية، وما الخلافات الحدودية التي انتهت إلى حروب أو إلى نزاعات حدودية إلا بداية لما نحن فيه الآن، وإن لم يكن متوقعا أن تصل بعد عقود حروب داخلية، وأن الجار الشقيق سيستبدل بالمواطن الشقيق، ونتج عن ذلك أمران منذ 2003، أي منذ احتلال العراق من التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، وبدعم عربي مالي ولوجستي واستخباراتي.

الأمر الأول: إعادة النظر في مسألة الشرعية، ليس فقط لجهة “من يحكم من؟”، وإنما إلغاء كل الشرعيات القديمة سواء أكانت تاريخية أم عسكرية، واستبدالها بشرعية الاحتلال، والقبول بإنهاء كل الأدوار الخاصة بمؤسسات الدولة لصالح أفراد أو جماعات تحكمها مرجعيَّات مُختلفة أغلبها خارجيَّة.

الأمر الثاني: تغير معنى السيادة في الدولة العربية القطرية، وذلك ضمن التغيّر العام لسيادة الدول، كما ذكرت في بداية المقال، وإن كان هنا قد ذهب بعيدا في السلبية، إذْ تعدّى التنازل عن بعض الجوانب أو المكتسبات بما تقتضيه المصالح المشتركة بين الدول إلى الخضوع والاستسلام، والأكثر من هذا الاستعانة بالقوى الخارجية لنصرة السلطة الشرعية، ودعم المعارضة بالمال والعتاد، ونصرة النظام المرفوض شعبيا، ودعم المعارضة والسلطة الشرعية في وقت واحد من طرف نفس القوى الداعمة، ومع أن ذلك كله أدى إلى المزيد من الفتنة، والمزيد من الضحايا المدنيين والعسكريين، إلا أنه يُطرح باعتباره الحل الوحيد على المستوى العالمي.

من الناحية العملية تعاني كل الأنظمة الجمهورية في الوطن العربي، من صراع سياسي وفي الغالب يكون دمويا حول مسألة الشرعية، وانتهى ببعضها إلى إعادة النظر في السيادة، وسينتهي بالبقية إلى نفس المصير، والأمثلة على ذلك كثيرة، من الصومال، إلى غزة ورام الله، والعراق، وسوريا، واليمن، وليبيا، ولبنان، والسودان، ومصر، والجزائر، وتونس، وموريتانيا، ولكل دولة من هذه الدول حربها الداخلية من أجل الشرعية والسيادة، حيث وصلت الذروة إلى الغياب الكلي للدولة في الصومال، وبعدها ليبيا، وتقل إلى درجة التفاؤل باحتمال الخروج من هذه الأزمة كما هو الأمر في تونس.

أما الدول العربية الملكية فلها مشكلات سياسية من نوع آخر، ومن أهمها تنازع الأجيال الجديدة على الحكم، والخوف من انتقال عدوى الانتفاضات من الدول العربية الأخرى، وعدم قدرتها على التنسيق والتحرك بعيدا عن الجمهوريات العربية، خاصة مصر، ناهيك عن ضغوط الدول الخارجية في الكثير من المجالات.

من الناحية الواقعية، وبعيدا عن التحاليل النظرية، فإن كل المعطيات الراهنة والوقائع أيضا تكشف عن تراجع ملحوظ في سيادة الدولة العربية القطرية، ولدينا أربعة نماذج في الوقت الراهن تُبيّن ما نذهب.

أولها: العراق، والذي يكمن أن نعتبره سلطة قائمة ودولة موجودة من ناحية الحيز الجغرافي رغم التقسيم الحاصل، إلا أن سيادته ضاعت هدرا بين أقطاب دولية منها على وجه الخصوص الولايات المتحدة الأميركية، وفي الغد القريب روسيا، وتتحكم فيه قوى إقليمية تدفع به إلى حرب أهلية طويلة الأمد على أساس مذهبي، شيعي تريده وتدعمه إيران، وسني تريده وتدعمه تركيا، ناهيك عن القوى الإرهابية الأخرى مثل: داعش، والقوى الدولية الأخرى التي تحاربها.

ثانيها: اليمن، حيث لا وجود لسلطة إجماع وطني، رغم وجود سلطة شرعية معترف بها دوليا، لم تستطع حتى الآن وبعد حرب تجاوزت ثمانية أشهر أن تفرض وجودها على كامل التراب اليمني، بالرغم من أنها مدعومة بقوات التحالف العربي، التي تسعى لاستعادة الشرعية إلى السلطة وإلى العاصمة صنعاء، وهو أمر يبدو صعب التحقق رغم المفاوضات الجارية هذه الأيام بين الفرقاء.

المهم أن الحالة اليمنية تمثل شكلا جديدا من أشكال الصراع السياسي، المصحوب بتدخل خارجي يتناقض مع مفهوم السيادة، مع أن الرئيس الشرعي عبدربه منصور هادي هو الذي استعان بتلك القوات من أجل استعادة السلطة والشرعية.

ثالثها، سوريا، وفيها تبدو مسألة السيادة أمرا تجاوزه الزمن، وذلك منذ أن اتسعت دائرة محاربة النظام لتشمل مقاتلين من جنسيات مختلفة، تلقوا دعما من بعض الدول العربية والأجنبية، وأُتبع ذلك بدخول قوى مساندة ومحالفة للنظام ممثلة في حزب الله والحرس الثوري الإيراني، ثم استنجاد بشار الأسد بروسيا لمحاربة داعش وأخواتها، والحالة السورية على النحو السابق، تكشف عن صراع محموم من أجل السلطة، حتى لو فقدت الدولة سيادتها بالكامل، بل إن المعارضة المسلحة وجدت ضالتها في استعانة النظام بالقوات الروسية، لتجد مُبرَّرًا لحصولها على الدعم البشري والعسكري والمالي من الخارج.

رابعها، ليبيا، التي ارتبطت السيادة فيها بأمرين، الأول عسكري له امتداد خارجي ساعد على توسيع رقعة الصراع، حتى انتهى إلى سيطرة داعش على مساحة واسعة، وهي آخذة في الاقتراب من آبار النفط، وهذا يعني أن هناك مجموعة من الشرعيات فرضت أنماطا جديدة من السيادة، قامت على خلفية العمل العسكري للجماعات الإرهابية، والأمر الثاني سياسي، يظهر في الخلاف البيّن بين جماعتيْ طبرق وطرابلس، وما ترتب على ذلك من صراع حول الشرعية والسيادة.

النماذج السابقة هي اختيارات مستقبلية لباقي الدول العربية، ومؤشرات كثيرة تشي بتغير ملحوظ في نظرة الحكومات العربية للسيادة على المستوى القطري، أما ما هو قومي فقد انتفى منذ أن أصبحنا “الشرق الأوسط وشمال أفريقيا”.

كاتب وصحفي جزائري

9