الترفّع عن الصغائر
نحن شعب عظيم وقوم جبارون. لا نأبه بالصغائر واهتماماتنا عالية وراقية. نهزأ من الصغائر مثل التعليم والصحة والمواصلات، فهذه أمور تافهة لا تستحق اهتمام العظماء. العظماء على أكتافهم تقوم المدنيات والحضارات والسلام العالمي.
أساس هذا هو ليس مجرد الإيمان بالمؤامرات وبأن أمور العالم تدبر بليل وهناك كيد دائم. الأساس الحقيقي هو حب الظهور بمظهر العارف بشؤون كونية والترفع عن الصغائر. يعني أن بائع الخضار يدع الأمور التافهة مثل سبب ارتفاع سعر الطماطم التي يبيعها، يدعها للتافهين بينما هو يعمل فكره في أسباب انهيار الاتحاد السوفيتي. والتوصل إلى أن غورباتشوف عميل للسي آي إيه.
أذكر أني وصلت إلى القاهرة ليلة انعقاد قمة شرم الشيخ لاتخاذ موقف عربي موحد من غزو العراق الذي بات وشيكا في مطلع مارس من عام 2003. راح سائق التاكسي القاهري، كالعادة، يحدثني عن الغزو وعن المؤتمر واحتمالات الحرب بلهجة الخبير العالم. سألته بلهفة “هل حضر العراق إلى الاجتماع” فقال مترددا “لا أظن فشرم الشيخ منطقة سياحية والعراق شعبي شوية بسبب الحصار، ربنا يعينهم”. الحكاية لا تحتاج إلى تعليق لكنها تثبت ما أذهب إليه حول الموضوع والأدوات.
أي بائع بطيخ عندنا يقول بلهجة المتحكم في موضوعه “اسمع مني” بيقين ساطع ولهجة آمرة لا تدع مجالا للطعن في صحة ما يقول. “اسمع مني. أنا أخبرك بما قال ريغن لغورباتشوف في قمة ريكَفيك” ويمضي يسرد وقائع أكثر اجتماعات العالم سرية وقتذاك. يعجبني اليقين الذي لديه.
الحكومات والمسؤولون عندنا سعداء بهذا. الشعب المنشغل باقتصاد الطاقة وبأسباب انهيار الإمبراطوريات وتراجع سعر الين، شعب مريح ولا يناكف الحكومة. رأيت بنفسي في حارات عاصمة عربية طفح مجاري الصرف الصحي وأقرأ عن سوء صيانة المنشآت وعن تدهور التعليم ومدارس آيلة للسقوط ومستشفيات فيها جرذان سعيدة، بينما الشعب يتحلق كل ليلة في مقهى ويستهجن جرائم الخمير الحمر في كمبوديا. الحكومات سعيدة طبعا لأنها ليست مسؤولة عن جرائم الخمير الحمر. هي مسؤولة عن الصرف الصحي لكن الناس منشغلة بما هو أهم.